اتصل بنا
 

ماذا بعد جمعة الأرض؟

نيسان ـ خالد زكريا - نون بوست ـ نشر في 2016-04-16

x
نيسان ـ

توقفت فجأة وأنا أتابع تظاهرات جمعة الأرض في مصر، ما عاد عندي قُدرة على المتابعة، أو قدرة على الانتظار والترقب، ما عاد عندي قدرة على النظر إلى هذه الجموع الشبابية التي لا تستطيع أن تميز أحدهم عن الآخر، الكل صار واحد لا مكان هنا لاختلافات قصمت ظهورنا وظهر ثورتنا.

تمنيت لو كنت معهم، ولكن فاجأتني نفسي الضعيفة بأنني لو كنت في مصر لربما تراجعت، فميدان القول غير ميدان العمل، لكنني لا أملك إلا رفع القبعة لهؤلاء الشجعان على أرض مصر، نقبل أقدامهم ورؤوسهم والأرض التي يمشون عليها، هنيئًا لهم مظاهراتهم وسُحقًا لمشاهدتي وتعليقاتي الفيسبوكية.

مشهد الحشود التي تتوافد على نقابة الصحفيين والمظاهرات التي تتقابل وتحيي بعضها البعض، مشهد نقابة الصحفيين نفسها وشارع عبدالخالق ثروت ومصطفي محمود كلها مشاهد تُعيد الذكريات ذات الشجون، مشهد المظاهرة في شارع شامبليون لها ذكري خاصة عندي.

شارع شامبليون الذي كنت أقف بالقرب من مدخله في ميدان التحريرعند هجوم البلطجية على ميدان التحرير ثاني أيام موقعة الجمل 2 فبراير، هجم البلطجية من ناحية الشارع فجرى الشباب والبنات والكبار ناحيتهم ليصدوا هجومهم ويمنعونهم من دخول الميدان، بينما وقفت أنا مشلول العقل والجسم، مشهد صامت من مشاهد السينما التي يتحرك فيها كل الناس من حول البطل وهو ساكن لا يتحرك، لم يوقظني من غفلتي سوى سيدة في عُمر أمي تقول لي: انقل طوب لإخواتك بدل ما إنت واقف كدا.

كانت صدمة نفسية لي وأنا الذي طالما - من المفترض - تربيت على الشجاعة وعدم الخوف ومقاومة الظالمين، وكنت أظن أننا أبناء التيار الإسلامي عمومًا والإخوان خصوصًا أكثر حُبًا لبلادنا وأهلنا وديننا من غيرنا، فلما وُضعت في الاختبار وجدت المُدخن - الذي كنت أظن نفسي أفضل منه - يسبقني لصد المعتدين دون أن يفكر في نفسه، أو حتي يفكر في شيء يحمي به نفسه أو يدافع به عن نفسه.

رأيت الفتاة - التي كنت أطلق عليها المتبرجة من وجهة نظري الإسلامية - تسبقني حاملة قليلًا من الحجارة لتضرب بها المهاجمين، وأنا الذي كنت أظنها لا هَم لها سوى الملبس والزينة وجذب انتباه الشباب، غيرت يناير فينا كثيرًا كما غيّر فينا ما بعدها كثيرًا أيضًا، يناير كان الاتحاد والحلم والأمل وما بعدها كان الفُرقة والضعف واليأس، لكن ها هي جمعة الأرض تُعيدنا مرة أخرى للحظة الولادة، لحظة العتق من الخوف، لحظة الخروج من قُمقم الحياة المغلقة إلى براح أرض الله الواسعة، فشكرًا لكم يا من أعدتم لنا الحلم والأمل والسعادة.

ولست أطالبكم ولا أتمنى منكم الكثير، فما كان لقاعد أن يُفتي لمُجاهد، كل ما أتمناه لكم هو السلامة والأمان وأن يحفظكم الله بعينه التي لا تنام، تعلمنا من ثورة يناير الأمل الواسع الذي لا حدود له، ولكن انكساراتها المتتالية علمتنا الواقعية، وضيقت فينا حدود الأمل.

علمتنا انكساراتها أن نصبر ونحسب خطواتنا، وألا نُعلق الأمال الكبيرة إلا بعد التثبت، ليس معنى هذا فقدان الأمل والطموح، ولكن قراءة الواقع والعالم المحيط بك مهمة في لحظة كهذا، حتى لا نطير في السماء ثم نتفاجأ أننا لا نملك أجنحة، وأن هذا الطيران كان قفزة وليس طيرانًا.

هذا الخروج في يوم جمعة الأرض وهذه الحركة تدل على أن روح يناير ما زالت موجودة وإن خبت كثيرًا، فمن استنشق عبير يناير قد يستطيع الحياة بعضًا من الوقت مع عطن 3 يوليو، لكنه لا يستطيع التعايش معه أبد الدهر.

ابتعد قليلًا عن الكلام الإنشائي والمشاعري، وإن كانت اللحظة كلها هي قمة المشاعر والدفء الينايري الذي افتقدناه، ولندخل في قلب الحدث، ما الذي نستفيده من هذه اللحظة الفارقة؟ وما الذي يجب أن يتبع هذه اللحظة الفارقة؟

وطن وشعب يستحق كل شيء

من الدروس الهامة أن هذا الوطن وذلك الشعب يستحق التضحية من أجله، هذا الوطن يستحق الموت من أجل ترابه ومائه وسمائه.

في الفترة الأخيرة كثُر كلام من نوعية هذا الشعب لا يستحق، هذه البلاد حرام العيش بها، وهذا الشعب لا يستحق نقطة عرق تنزل منّا من أجله فما بالك بنقطة دم، هذا الكلام انتشر كثيرًا وخصوصًا بين أبناء التيار الإسلامي ومنهم الإخوان - وإن كنت أتفهم معاناتهم وآلامهم - بعضهم بدأ يتسرب اليأس والعجز إلى قلبه، وبدلًا من أن يبحث عن حل خارج الصندوق، يضع الذنب واللوم على الشعب، رغم أن الشعب من ضحايا الانقلاب العسكري سياسيًا واقتصاديًا ومعنويًا ومعرِفيًا.

الشعب المصري يستحق كل شيء، يستحق أن يعيش بكرامة وحرية وعدل ورفاهية، ومنذ متى يتم النظر للشعوب والأوطان بكمية ما تعطينا من مميزات وفوائد؟ فعلى قدر المنافع يكون الحب والتضحية! هذا ما كان يسميه الراحل محمد حسنين هيكل (وطنية الشركة)، فأنا وطني وأحب بلدي وشعبي لأنهم يدفعون لي راتبًا مجزيًا ويوفرون لي فرصة عمل وعيشة كريمة، هذا ما يجب على الحكومات، لكن الأوطان لا علاقة لها بالحكومات صالحها وفاسدها، والشعوب تحكمها ظروف كثيرة وملابسات عدة.

ما أصاب الشعب المصري نتاج طبيعي لسنوات القهر والاضطهاد والظلم، أقرأ كتاب طبائع الاستبداد للكواكبي وأنت تعرف كيف يغير الاضطهاد طباع الشعوب، وما حدث للشعب المصري منذ ثورة يناير وحتى الانقلاب من حرب نفسية وإعلامية موجهة ومدروسة وعلمية وتلعب على طباع الشعب ومميزاته وعيوبه، لو حدثت في أي شعب آخر ووضع مشابه لحدث معه نفس ما حدث للشعب المصري، ولتنظر للشعب الأمريكي الذي تربى وغرق وغطس في الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية، كيف ينظر للقضية الفلسيطينية.

للجماهير قوانينها الخاصة

الجماهير لن تخرج لتدافع عن مطالبك، بل هي تخرج لتدافع عن مطالبها وما ينتمي لها، تخرج عندما تشعر أن الهتاف هو هتافها والكلام هو كلامها، يُمثلها ويمثل أبناءها وأحفادها، أما عندما يكون المطلب مخصص لطائفة ما أو تكتل سياسي فهذا لا تهتم به الجماهير، ولن يصنع ثورة إلا انضمام جماهير الشعب، ولن يحافظ على الثورة ويضمن استمرارها إلا رضاء هذه الجموع عنها، واستعدادهم لتلبية نداء الثورة عندما تحتاجهم لحمايتها أو الحفاظ عليها، ولن تسقط ثورة إلا عندما ينفض عنها جماهير الشعب.

هذا الكلام قد لا يعجب بعض الإسلاميين المطالبين بعودة الدكتور مرسي والشرعية الانتخابية، والذي فشل هؤلاء في تحويله من شعار يمثل مجموعة سياسية إلى شعار يمثل جماهير الشعب المصري، هذه حقيقة قد تبدو مؤلمة حتى لي أنا شخصيًا، لكنه الواقع على الأرض، وما أوصلنا لهذا الواقع إلا جُملة من الأخطاء لا مكان لسردها الآن مع عظمة المشهد الحالي وفرضيته الجميلة الحالمة.

يجب على الإخوان ومن معهم أن يعيدوا التفكير في مطالبهم مرة أخرى، وأعلم أن الأمر ليس بالهين ولكنها مراجعة تفرضها حتمية المشهد الحالي وحتمية الواقع، وما كان مسموحًا به أيام (رابعة) وما بعدها من شهور قليلة أعتقد أنه ما عاد يصلح الآن، هناك أمور جديدة وأحداث جسيمة وقعت، وأعتقد أنه من الأفضل أن يكون الكلام حول مطالب عامة لجماهير الشعب، مطالب محددة من عودة الحرية والديمقراطية والعدالة، وما أحسن من شعارات يناير لنتفق عليها.

وبالمثل ما هو موجه للإخوان هو موجه للقوى الأخرى الشبابية منها والثورية والسياسية، فمشهد جمعة الأرض يفرض على الجميع أن يُعيد النظر، ويتفقد أين تقف قدماه .

نيسان ـ خالد زكريا - نون بوست ـ نشر في 2016-04-16

الكلمات الأكثر بحثاً