اتصل بنا
 

البلوتوقراطية... أو الطريق إلى مهرجان العدم

نيسان ـ نشر في 2016-06-21 الساعة 15:51

تاريخ البشرية، لمحاربة البلوتوقراطية والدفاع عن حقوق الفقراء والمستضعفين، ولكن اليوم تنشط أحزاب دينية تدعو إلى محاربة البلوتوقراطية والتركيز على القيم الروحية والأخلاقية.
نيسان ـ

يتألف مصطلح بلوتوقراطية من لفظتين إغريقيتين: بلوتوس (ثروة) وكراتوس (سلطة أو حكم)، وهي تعني سلطة الثروة، وتدلّ على نظام سياسي، تُمسك بزمام السلطة فيه طبقة الأغنياء أو أصحاب الثروات.
ففي روما القديمة (الإمبراطورية الرومانية)، كان حق الانتخاب حكراً على الأغنياء الذين تتجاوز ثرواتهم حدّاً معيناً. وحكم الأغنياء (البلوتوقراطية) نظامٌ، ساد عبر الحقب التاريخية المختلفة، في الحضارات المختلفة. وكان نظاماً سافراً معلناً، تقرّه الأعراف والقوانين، ولو على مضضٍ أحياناً؛ غير أنه كان، في مختلف الحقب التاريخية، كذلك، يثير سخط الفئات الشعبية والشرائح الفقيرة، وهدفاً للثورات والانقلابات، وموضع نزاع فكري سياسي وعملي اجتماعي، تألبت عليه القوى الاجتماعية الأخرى وتعبيراتها الفكرية السياسية؛ ثم ما لبث أن انتقل من السفور والعلن إلى الخفر والخفاء، مع انتصار الأفكار السياسية التي ميّزت العصور الحديثة وبروز مفاهيم فلسفية وسياسية مثل الديمقراطية (حكم الشعب) وحقوق الإنسان.. فما كان بلوتوقراطيةً معلنة، تحوّل إلى بلوتوقراطية مقنّعة، احتجبت وراء ستار غدا موضع فضحٍ تُمارسه المنظمات والأحزاب السياسية، من طريق إظهار جوهر الأنظمة السياسية التي تمارس الحكم فيها فئة الموسرين (طبقة الأغنياء) مُتخفيّةً وراء آلياتٍ شكلية تنادي بالديمقراطية والانتخاب الحر والحقوق المتساوية.
ولعل الليبرالية والأفكار السياسية والاقتصادية التي أطلقت حرية المبادرة الاقتصادية، على أساسٍ وحيدٍ أوحد هو المنافسة، كانت متنفساً واسعاً، استعادت عبره البلوتوقراطية سلطانها السابق، تحميه القوانين فعلاً، وإن كانت تعاديه شكلاً. فما كانت تسمّى "شركاتٍ عابرة للقوميات" أو" شركاتٍ متعدّدة الجنسية"، باتت اليوم هي التي تتمتّع بنفوذٍ يفوق نفوذ الدول وقوة الحكومات، وتخضع لقوانينها، قوانين المؤسسات الأخرى، سواء أكانت وطنية محليّة أم دولية عالمية.

على أن أكثر الأحزاب السياسية التي تناوئ البلوتوقراطية اليوم ليست الأحزاب السياسية الحديثة، ولاسيما التي تقوم على الأفكار والنظريات الثورية، كالأحزاب الاشتراكية والقومية ذات المنحى اليساري إلخ... وإنما الأحزاب التقليدية، ولاسيما الدينية منها؛ ففي أوروبا والولايات المتحدة تنشط أحزابٌ دينيةٌ وهيئاتٌ ومؤسساتٌ تعلن انتسابها إلى هذه الكنيسة أو تلك، تهاجم سلطان المال وطغيان المادة على الروح. ولا ننسَى نضال الآباء والمبشّرين الدينيين الأوروبيين والأميركيين الشماليين الذين نشطوا، طوال القرنين الماضيين، في جنوب القارة الأميركية لتحريض الفقراء على أنظمة الحكم الجائرة باسم الكنيسة والدين المسيحي؛ وأكثر من ذلك، ارتباط حركات ثوريةٍ إسلامية في مختلف حقب التاريخ الإسلامي، ولا سيما في ظلّ الخلافة العباسية في بغداد، كانت تحارب الأغنياء، وتبيح سرقة أموالهم ووضعها في خدمة الفقراء، كحركة "الشطّار" وجماعة "العيّارين"، وغيرهما من فئاتٍ اجتماعية، استخدم بعضها الدين سلاحاً لمكافحة الغنى الفاحش والحدّ من انتشار الفقر وتفشّي ظاهرة الاستعطاء.
والقول إن السلطة إنما توجد اليوم أيضاً في يد أصحاب المال في البلدان المتخلّفة اقتصادياً، لا يغطّي كامل حقيقة الواقع القائم في العصر الحديث؛ فهي كذلك في يد أصحاب المال في البلدان المتطوّرة والمتقدّمة، كالولايات المتحدة التي هي بلد بلوتوقراطي بامتياز. وفي هذا الإطار، يرى المفكّر والخبير الأميركي في السياسات البلوتوقراطية، بول كروغمان، "إن مكوّن الدولة البلوتوقراطية في أميركا مدينٌ بظهوره إلى عوامل عدة أبرزها: فقر ربع السكان في الولايات المتحدة، ومعظمهم من أصل إفريقي، تمويل المليارديريين الكبار للحملات السياسية الإنتخابية على مستوى الرئاسة ونواب الكونغرس بمجلسيه: الشيوخ والنواب، وسهولة شراء الأصوات وأفانين التزوير الانتخابي، وحتى ترهيب الناخبين وملء صناديق الاقتراع"... تماماً كما هو الحال في أسوأ دول العالم الفاشلة!.

وعلى حدّ تعبير كروغمان: "ثمّة علاقات جدليّة كبرى متناغمة ومتشابكة في الولايات المتحدة بين التروستات المالية والسياسية والإعلامية".. وكلّها تقود في اتجاه مصبٍّ واحد، وهو خصخصة الدولة بالكامل، وتحويل الديمقراطية إلى مجرد سلعة، والإجهاز بالتالي على المفهوم الكينزي (نسبة إلى الاقتصاد البريطاني/ العالمي، جون ماينارد كينز) الذي شكّل مرجعية سيو - اقتصادية مهمة جداً لصنّاع السياسة الجدّيين في العالم، أو ما يسمّونهم رجالات الدولة الكبار، والذين من أولى مهامهم، مواجهة الفساد والكساد وردم الهوّة بين الأغنياء والفقراء، وجعل الدولة تتدخّل بقوة لإنقاذ مجتمعها من حيتان المال وجبروت أرباب "نظام الظل المصرفي"، هؤلاء الذين يحكمون العالم بصمتٍ من خلال الإمساك بثرواته. فبحسب معلوماتٍ وردت في تقريرٍ أصدرته منظمة أوكسفام الخيرية الدولية (مقرها لندن)، ورد فيه "أن 85 مليارديراً فقط يسيطرون على 52% من ثروة سكان العالم".
والأمور المتردية هذه مرشحة للتفاقم أكثر، لأن الغنى المركّب على السلطة والتسلّط، أو بالأحرى الغنى الذي لا يستمدّ غناه وتوحّشه إلاّ من السلطة والتسلّط، لا يسعى سوى إلى تمكين شراهته وتثبيت أطماعه المطلية بقشرة من القيم النظرية والأخلاقية، وحتى "الدينية"، يفلسفها إعلامه المرتبط باللعبة كلها ارتباط السبب بالمسبّب، والشرارة بالمزيد من اشتعالها.
"البلوتوقراطية هي إذاً نظام حكم المال، حيث تكون السلطة في يد حفنةٍ من أصحاب الغنى الفاحش"
إننا إذاً أمام بلوتوقراطية كونية لا تنظر إلى البشر إلاّ كجماعات مفطورة على العبودية وثقافة الاستعطاء بصورتها الأكثر إذلالاً وتخبّطاً في القاع الاجتماعي؛ وهي بلوتوقراطية متحالفة بالضرورة مع جماعات مركّب الفساد والإفساد، أينما كان في هذا العالم، بل هي جزء من آلياته المتفشية في المجتمعات كلها، تفشّي السرطان بالجسد المتهالك.
وهذه البلوتوقراطية بتوحشها غير المسبوق وبفظائع شرورها الدهرية، هي نتاج انهيار الرادع التاريخي للصراع السياسي في العالم اليوم، ودخولنا في عقيدة شمولية جديدة لرأس المال، تقطع مع كل شيء، وتتجاوز كل شيء، ولا يهمّها، حتى ولو تحوّل العالم كله - كما هو قائم اليوم - إلى مهرجان للفوضى والعدم المستدام.
من جانب آخر، ثمّة مشكلة محورية تتجوّل داخل رؤوسنا، وترمي بنا ربما وراء التاريخ، ألا وهي فقر ما يسمونه "العالم الأول" اليوم بالقامات السياسية الاستثنائية التي تصنع التاريخ أو تستأنفه على نحو يضع حداً نهائياً لهذه الفوضى، وتفشّي البلوتوقراطية الفاقعة والفساد المقيم وانعدام التوازن المكرِّس لسياسات استنسابية هجينة، داخل مجتمعاتها والكثير من المجتمعات الأخرى.
وكلما ازدادت ظاهرة غياب القامات، أو الكاريزمات السياسية الكبرى، ازدادت معها حالات انتشار البلوتوقراطية كإيديولوجيا آسنة ومنتجة أيضاً ثقافة اليأس والعنف والبربرية والإرهاب. البلوتوقراطية وباء حقيقي وشرس؛ وهو وباءٌ حافظٌ لبقائه بقوة انتشاره، وفلسفته تصفع الجميع بالقول إن الزمن هو المال والمال هو الزمن.
يا لها من أبوكاليبتية أحادية مرعبة وراعبة في آن.

نيسان ـ نشر في 2016-06-21 الساعة 15:51


رأي: أحمد فرحات

الكلمات الأكثر بحثاً