اتصل بنا
 

حنى في طريقها إلى الكنيسة

نيسان ـ نشر في 2016-10-03 الساعة 11:05

حنى رزوق: الجدة الطبيبة الذاتية التعليم والعلاج الطبيعي
نيسان ـ

لا يمكنني التيقن من أن الجدّة، حنى رزوق، تمتّعت، في يوم ما من حياتها الطويلة، بأي خبرةٍ طبيةٍ من أي نوع. على الأغلب، كان إلمامها بعلوم الطب يشبه إلمامي بمادة الرياضيات التي اعتدت أن أحصل فيها، طوال سنوات الدراسة الابتدائية، على درجةٍ مقصرةٍ، مذيلةٍ بملاحظةٍ تفيد بأن عليّ بذل جهود أكبر، بتوقيع معلمة المادة، توضع مثل الوصمة بالقلم الأحمر على الشهادة كل سنة، ما يسبب لي عقوبات كثيرة. لكن، ولسبب له علاقة بحضورها القوي الغامض، وهي التي لم تتزوّج، ولم تختبر الأمومة على صعيد البيولوجيا، على الرغم من أنها كانت أمنا العذراء التي نحبّ، ونرهب جانبها في الوقت ذاته، جرت العادة أن تأخذنا الأمهات الملهوفات إليها، باكين من شدة الألم، كلما تعرّض أحدنا إلي إصابةٍ جرّاء الطيش الشديد في أثناء اللعب الذي لا ينتهي، حيث الحاكورة الترابية باتساع الدنيا. قدم مفكوشة إثر عراك بين صبيين، ذراع ولد أرعن منهوشة من عضة بنت، كانوا يسمونها "حسن صبي"، اعتدى أحدهم بالضرب على أخيها الصغير، رأس فُجّ من نيران صديقة في أثناء استخدام منجنيق بدائي، صنعه أولاد أشقياء للذود عن الحمى.
تصطحب الأمهات الجزعات صغارهن المصابين بالخدوش والجروح الطفيفة إلى حنى الطيبة، بالوشم المدقوق على وجهها الرقيق دقيق الملامح، فتغسل الجزء المصاب، وهي تقرّع الصغير المصاب بسبب لعبه المؤذي، وقد تنتقد، في الأثناء، تربيته السيئة، من دون أن تنبس الأم المقصودة بكلمة. تضع حنى أعشاباً على الجرح، جمعتها من بساتين السلط، جففتها ودقّتها وخبأتها في النملية إلى حين الحاجة. وأحياناً، تكبس حنى الجرح النازف بحفنة بن، وتضغطه بقوة، ناهرة الصغير، تأمره بالكفّ عن البكاء، تقول له أن ينهض بلا دلع.
حين يولد طفلٌ في الحارة، فإن مهمة حنى معروفة لدى الجميع، تذهب إلى بيت الوالدة، تحث الأم الصغيرة على التهام الدجاجة المطبوخة بالسمن البلدي (علشان الحليب يدر). تفرك جسد الرضيع بالملح، غير مكترثةٍ بزعيقه المحتج، معتبرةً ذلك أول دروس الألم التي ينبغي أن يتلقاها. تدهنه بزيت الزيتون، وتضع الكحل الأسود الذي تدقّه بيديها في عيني الرضيع، صبياً كان أم بنتاً. تثبت يديه وقدميه، تلفه جيداً بالكوفلية، وتطلب من الأم أن ترضعه الآن.
أيام الأحد، وفي طريقها إلى الكنيسة، ترتدي حنى ثوبها الطويل الأسود المطرّز الذي يجري خلفها أمتاراً، وتعتمر عصبة الرأس السلطية المميزة، تعبر من أمامنا ضاحكةً مربتة على رؤوس الصغار، فنشمّ رائحة الحناء والريحان منها، فتبثّ في أرواحنا البهجة التي تحدث لأبسط الأسباب. تعود من الكنيسة ظهراً، معرّجة على بيت جدّتي التي تُبادرها بالقول: تقبل الله صلاتك.. وتردّ حنى: منّا ومنك صالح الأعمال، يا أم خليل. .. ثم تنخرط المرأتان في حديثٍ متعلق بشؤون الدنيا. تستأذن جدتي لأداء صلاة الظهر، فيما حنى مشغولةٌ بحديثٍ مازح مع جدّي، شاكياً لها تسلط جدتي وعصبيتها. تضحك حنى من قلبها. وتُبدي جدّتي تبرماً واضحاً حين يعلو صوتها احتجاجاً على افتراءات جدّي، وهي تقرأ التحيات. يشربون القهوة المرّة التي يحمّصها جدي صباحاً، ويدقّها بالمهباش الذي اعتدنا الاستيقاظ على وقع دقاته. تعد جدّتي الدِّلال بقهوتها الطازجة، مضافاً إليها الطيب والهيل، في بيتها الصغير البسيط، مشرعةً أبوابه للجيران الشركس والشيشان، شوام أرمن فلسطينية إسلام ومسيحية، من دون أدنى تفريق، شعارها دائماً "يا هلا بضيوف الرحمن".
تنفث حنى بعض سجائر الهيشة، وتهمّ بالمغادرة، تحاول جدّتي استبقاءها للغداء. ترد حنى: أعود مساءً. الآن، بدّي أجهز عجينة الكعك للفصح المجيد. .. تقودني، من دون استشارتي، تمسك يديّ، قائلةً لجدتي بحزم: سآخذ صغيرتك المشاغبة التي لا تلعب سوى مع الأولاد، لكي تلوّن البيض مع بقية البنات.
فيما بعد، رحل الجميع، وكبر الصغار. رحلوا حاملين في أرواحهم ندبة الحنين التي ليس منها شفاءٌ يُرتجى. وتلاشت، مع الأيام، ملامح حارتنا التي كان اسمها، للمفارقة، حارة السعادة. وظلّ قائماً في البال حوش دارك، يا جدّتي حنى، حافلاً بكل ألوان الطيف مجتمعةً، يقودني نحو الجمال.

نيسان ـ نشر في 2016-10-03 الساعة 11:05


رأي: بسمة النسور

الكلمات الأكثر بحثاً