اتصل بنا
 

إهداء إلى رغد صدام حسين بالذكرى العاشرة لاستشهاد والدها

كاتبة وصحافية مقيمة في لندن

نيسان ـ نشر في 2016-10-06 الساعة 10:17

لقاء رغد صدام حسين وقصة حب والدي في بغداد
نيسان ـ


قبل عدة سنوات، كنت التقيت رغد صدام حسين في محل تجاري فاخر في عبدون، تديره قريبة لي. كنت مع سيدة فاضلة حينها وكانت رغد الجميلة المتألقة برفقة ابنة عمها. وقد عرفتني قريبتي على رغد على أنها بنت البطل صدام حسين، فسلمت عليها وابتسمت في وجهها، إلا أن السيدة الفاضلة أخذتها في الأحضان وانهالت عليها بالقبلات الحارة وأخذت تتحدث معها باللهجة العراقية.
كان جدي لأبي صاحب قرار نزوحنا من فلسطين إلى العراق لكي ينقذ أرواحنا، وعاشت العائلة في العراق، إلى حين استلام صدام حسين سدة الحكم، والذي كان سبب خروجنا من العراق ليس لأنه اضطهدنا سياسيًّا، بل لقرار إلغائه الإستيراد من خارج العراق، فما كان من بعض أقاربنا ومن ضمنهم، أبي الذي كان يتاجر بالقماش في سوق دانيال حينها، إلا الرحيل إلى عمان في منتصف السبعينيات.
أما أمي، السورية الأصل، فقد ترعرعت هي الأخرى في العراق لأن والدها كان صاحب مطعم في "باب الشرجي" أو "الشرقي". وفي ذات يوم بهي، زارت جدتي لأمي دكان والدي وعمي في سوق دانيال لشراء أقمشة هي وجارتها، فسألها عمي إن كان لديها بنات للزواج، فردت جدتي بلا حازمة، إلا أن جارتها الفلسطينية 'فسدت' عليها دالة على أمي وأعطته العنوان.
حينها لم يكن يريد جدي تزويج أي من بناته لفلسطيني، لخوفه من أن يطلع فدائي ويموت من أجل فلسطين تاركًا وراءه زوجة وأبناءه كما حدث مع فاطمة، بنت خالة أمي، إذ خرج زوجها الفلسطيني الفدائي ولم يعد لغاية اليوم ودون أن يعرف أنه خلف بنتًا حتى! ولهذا كان يتهرب جدي من استقبال الضيوف وكلما زارته عائلة أبي لم يكن جدي موجودًا، لكن هذا أعطى فرصة للقاء أمي وأبي، اللذين وقعا في الحب من أول نظرة. وظلت عائلة أبي تتردد على عائلة أمي إلى أن استسلم جدي للأمر خاصة بعد أن تدخل جيرانه الفلسطينيون. وهكذا جئت إلى الحياة مولودة على ضفاف نهر دجلة في العطيفية/ بغداد، وكنت أول مولود لوالديّ وبعد مجيء ثاني مولود في العراق، كانت عائلتي قد انتقلت إلى عمان.
وظللت دائمًا أحن إلى العراق وأحبه وذلك أيضًا لحب والديّ له، فالعراق كان بلد الخير والخيرات، بلد الناس المعطاءة وكم كنت أعشق صباحات القيمر والرقي والهاكي! وقد عاش جزء كبير من عائلتي في بغداد لغاية 2004، حيث رحلوا جميعًا إلى عمان بعد أن قتل إبن عمي الشاب طالب في بيت صديقه الشرطي العراقي على أيدي مجموعة لم تصب طلقاتها المسددة صديقه المطارد، لكن طلقة واحدة خاطئة أردت طالب قتيلاً، تاركًا خلفه أرملة شابة وطفلة صغيرة.
وطالب هو حفيد عم أبي طالب، الذي كان صديقًا حميمًا لصدام حسين، كما كان يروي لنا. والمفارق في الموضوع أن الجد طالب، الذي عاش في لبنان، كان قد اختطف واختفى على أيدي من نعتقد أنهم من النظام السوري في الثمانينيّات، ولم نقتف له أثرًا منذ ذلك الحين وحتى اليوم! وقد عاش أقاربي آلام الشعب العراقي وخاضوا أهوال الحروب جميعها، وتبرعوا بمجوهراتهم وأموالهم أيام الحرب مع إيران.
وفي منتصف التسعينيات، وبعد تخرجي من كلية الإعلام وأثناء عملي في صحيفة أردنية، زرت العراق بدعوة من السفارة العراقية، للمشاركة في مؤتمر الصحافيين العرب في بغداد ومهرجان الحضر في الموصل وغير ذلك. وكنت باستضافة العراق أنا والمصور جمال، ولم أبلغ جميع أقاربي أني في بغداد، بسبب طبيعة عملي، فلم أرد أن أسبب لهم حرجًا. لكني استثناءً زرت عائلة طالب وهو صديق طفولة، ولم يكن متزوجًا حينها، ولا أعرف ما الذي خطر ببالي، ربما بسبب حماستي غير المدروسة.
وجدت نفسي أطلب التلفون وأجري مكالمة مع حزب البعث وأطلب مقابلة مع رئيس حزب البعث وسط ذهول واصفرار وجوه عائلة طالب التي كانت تصر علي أن أترك الفندق وأبقى عندهم، إلا أنهم بعد هذه المكالمة توقفوا عن الإلحاح. وأنا لغاية الآن لا أفهم الجرم الذي فعلت إلى أن تماسك والد طالب وسألني: هل تعرفين ماذا فعلت؟ أجبت بلا. هل تعرفين أنك طلبت مقابلة صدام حسين؟ فطرت من الفرح وقلت: يا ريت. إلا أن أقاربي ظلوا خائفين مشدوهين.
وفي نفس الرحلة، التي استمتعنا بها أنا والمصور المرافق لي والذي أصر علينا أن نغادر إلى الموصل بالقطار قبل أن آخذ قسطًا من الراحة، استعدادًا للرحلة الطويلة والتي تستغرق وقتًا. فالبرنامج كان حافلاً وقد احتفى بِنَا العراق في نادي الضباط ونقابة الصحفيين وغيره، وقد أصابنا الحزن والأسى على العراق والعراقيين تحت الحصار، ولمسنا خوف العراقيين واختناقاتهم.
وحين حانت العودة من الموصل، كنّا برفقة فرقة شعبية فلسطينية في القطار، وكنت قد أصبت بإعياء وصداع وطلبت حبة مسكّن، فأعطاني شاب من الفرقة حبتين، أظن أنهما ريفانين أو شيء من هذا القبيل، لكنهما تسببتا بنزيف حاد في المعدة، كدت أفقد حياتي على إثرها، وانتهى بي الحال في مستشفى اليرموك، التي حصل فيها انفجاران وقتها. كل هذا وأنا أشعر بالإثارة رغم الخطر، فأنا لست متعودة على كل هذه الأحداث في وقتٍ واحد. وما زلت صحفية غضة الطرف، إنما جريئة!
وقد أنقذ حياتي طبيب شيعي عراقي، حيث كنت في الطوارئ وجاء أحدهم ليعطيني حقنة، فصرخت إمرأة بلا وكانت هذه حقنتها وتكرر الأمر مع أشخاص آخرين، مما يدل على شُح الدواء والفوضى في غرف الطوارئ. بعدها، لم أقو على الوقوف وأصبت بالإغماء وحملني المصور وركض الطبيب العراقي نحوي، ليعيدني إلى الحياة بعد أن وصل ضغطي إلى قريب الصفر. كنت أحيا وأموت مع الشعب العراقي نَفْسًا بنفس ونبضًا ونبض، ولم أمانع أن أموت في أرض العراق ومع شعب العراق حينها. وكان هذا الطبيب الرائع يجلب لي وردة كل يوم ويعتني بي. وكان عليهم أن يجدوا ثلاث وحدات دم لي. فقد نزفت دمًا كثيرًا وزمرة دمي صعبة (O negative)، ثم تبرع لي عدي صدام حسين بوحدتي دم (من بنك الدم على ما أعتقد) وكان عدي قد وضعني في خدمة (VIP) منذ البداية، كوني ضيفة صحفية على العراق. أما الوحدة الثالثة، فقد تبرع لي بها صحفي عراقي، زمرة دمه من زمرة دمي. ولهذا، ليس من المبالغة القول بأن دمًا عراقيًا يجري في عروقي، لا أدري في الحقيقة إن كان دمًا سنيًّا أم شيعيًا أم مسيحيًا.
أما عدي صدام حسين، فإني لم ألتقيه رغم أن الشائعات ترددت بأنه سيزورني. ففرحت وشعرت بالإثارة، فها أنا أقترب ولو قليلاً من صدام حسين. ففي ذات يوم كانت المستشفى تعد العدة لشيء غامض. فالتنظيف الإستثنائي جارٍ على قدمٍ وساق.
سألت طبيبي كاظم، الذي بدا قلقًا وممتعضًا. "ما الذي يجري اليوم؟ " فتلفت حواليه ووضع ذقنه في كفه وصرح: "سأقول هذا لك، نعتقد أن عدي سيزورك اليوم. " ففرحت كثيرًا، لكنه هدأ من روعي بالقول: " لا تبتهجي كثيرًا، فهو شخص سيء، ومن المعروف عنه أنه إذا أعجبته أي فتاة، فإنه يأخذها عنوة." فخفت وسألت: "حتى أنا؟" فاقترب مني الطبيب وهمس: "حتى أنت"! ثم أضاف: "نحن لا نعلم إن كان سيأتي، فقد بلغنا أن عدي أو وزير الصحة مدحت أوميد" ووسط ذهولي، أمسك الطبيب بيدي وقال: "إدعي أن يكون أوميد، نحن ندعو أن يكون أوميد".
وكأن الله استجاب دعواتنا فبعد ما خبرني به الطبيب، لم أعد متحمسة للقاء عدي صدام حسين. فمنذ وصلت العراق، وأنا أسمع أشياء في غاية السلبية عن عدي، كان الصحفيون والمسؤولون العراقيون يتهامسون حول كيف جعل عدي الصحفيين يضربون شخصًا ( لم أعد أذكر من هو) بالطماطم في أحد الإجتماعات؟ ماذا سيكون مصيره؟ أكيد الإعدام! الجميع مرتعدون والجو مكهرب وإحنا الضيوف في واد وهؤلاء العراقيون في وادٍ آخر.
العراقيون قلقون بشأن الحصار وعواقبه على العراقيين، حالة التقتير التي يعيشون عليها. مواجهة المصير المجهول، لكنهم وقتها كانوا ما زالوا عراقيين ولم يتحولوا إلى أوغادٍ بعد، كانوا رغم كل ذلك حنونين، دافئين، حقيقيين، كانوا عراقيين أصيلين. رغم كل الذي يمرون به، لم ينسوني من الزيارات والإعتناء، حتى أنني لم أفتقد أهلي، بل أمضيت أمتع أوقات حياتي في هذا المستشفى بينما أتأرجح بين الموت والحياة مثلي مثل العراق، الذي بدا لي وكأنه بحاجة لغرفة إنعاش عاجلة. لكن أحدًا لم ينعشه، بل شحذ الطامعون سيوفهم ليسهموا في مقتله. والعراق ذاك الأصيل لم يقصر معي، فقد أرسل وزير الصحة مدحت أوميد للإطمئنان علي.
أما سبب حبي والإمتنان لعراق صدام حسين، فهي قد لا تعود إلى أيًّ مما سبق ذكره، بل يعود إلى أيام طفولتي الأولى، حين بدأ عشقي للقراءة، كان والدي يأخذني معه عند صديقه العراقي في الملحق الثقافي بالسفارة العراقية.
كم أحببت صدام حينها وكم عشقت عراقه لأنه كان يعطيني عشرات الكتب والقصص للأطفال والتي كنت أقرأها بشغفٍ ولهفة، ومنها بالطبع قصص البطولة والتضحية وكل ذلك مجانًا لنشر الثقافة، وكانت الكتب كبيرة ومتينة وأنيقة، ملونة بألوان زاهية وعليها تصميمات رائعة ومجلدة تجليدًا فاخرًا، وفيها رسومات وألوان مما يفتح الشهية للقراءة وبالتأكيد لم تبدو رخيصة بل كتب متعوب عليها من جميع النواحي.
ولو أننا اليوم نطرح فكرة منح كتب مجانية بهذه النوعية الفاخرة ذات المضمون الجيد أيضًا للأطفال في أوروبا، لربما رد علينا الأوروبيون بأن هذا بمثابة الحلم، لكن صدام جعله حقيقة لي وأنا أعتقد لأطفال كثيرين غيري، ولهذا ولغاية اليوم حين أتحدث عن صدام أقول: هل تعرفون الأشياء الجيدة التي قام بها صدام؟ تقولون أنه ديكتاتور، ليس المهم أن نستمع لكل ما يقال عن صدام. المهم أن نعرف نحن ماذا كان صدام يعني بالنسبة لنا نحن العرب.
وكم استأت حين شاهدتهم يلفون حبل المشنقة حول رقبة صدام حسين في أول يوم من أيام العيد، دون مراعاة لنا وبكل استخفافٍ بمشاعرنا. وها قد رحل صدام حسين دون أن ألتقيه وأشكره شخصيًا على الكتب وسلسلة كتب القادسية، التي أهدتني إياها دولته عندما كنت طفلة، رحمك الله يا صدام ورحم أيامك ورحم عراقك المجيد.

نيسان ـ نشر في 2016-10-06 الساعة 10:17


رأي: سندس القيسي كاتبة وصحافية مقيمة في لندن

الكلمات الأكثر بحثاً