اتصل بنا
 

حلب.. إيش في؟

كاتبة وصحافية مقيمة في لندن

نيسان ـ نشر في 2016-12-25

نيسان ـ

حلب يجب أن تكون القنبلة الموقوتة في ضمائرنا، نحن الأفراد والشعوب والحكومات العربية والأوروبية. وحلب هي الوجهة إلى السماء، إلى أعلى، إلى الأسمى، إلى فوق، إلى المطلق وإلى العقل. ولا وألف لا للعار البشري المتخاذل والمتفشي والمعدي أيضًا. لا ألوم أحدًا، بل أدعو إلى نظرةِ صدقٍ (مجرد نظرة ولو مختلسة وسريعة) لكنها ثاقبة في الروح. وتعالوا نحمل سلة الأسئلة المشروعة وغير المشروعة حتى نصل إلى اكتشافٍ رهيبٍ بديعٍ هو الإنسان بمعدنه وجوهره ولحمه وشحمه، الذي يتحول أحيانًا لوقود حرائق الطائفية والعنصرية والجهل والتعصب. الإنسان بخصوصيته وقدسيته وميزته في الحياة وتفضيله على سائر المخلوقات. هذا هو 'المقدس' الحقيقي على الأرض.

المرأة الأم الوطن الخصبة المعطاءة، كلنا نفديها بدمنا أو هكذا نقول. الكلام الجدلي الكبير هنا هو من يفدي من؟ الأم تفدي أبناءها؟ أم الأبناء يفدون الأم؟ الثانية هي الأصح، لكن أيهما الأعمق والأعقل والأعقد؟ والأم هي موضوع طويل عريض، ونحن نقدس أمهاتنا بشكلٍ ليس له شبيه في أي ثقافة أخرى. نكاد نعبد أمهاتنا، ونفدي الأرض بأرواحنا خاصة إذا كنّا فلاحين. حلب، لماذا كل هذا الحب للأرض؟ هل هذا حبًّا أكبر من حب الإنسان للإنسان؟ هل يجب أن نستشهد؟ هل نذهب للموت برجلينا؟ وهل نقف في وجه الموت عندما يأتي ليواجهنا؟ الشجاعة خصلة جميلة، لكن قليلٌ منا يدرك أن الحياة قصيرة جدًا. أهالي حلب لا بد يعرفون أن حياتهم مهددة لحظة بلحظة، ساعةً بساعة ويومًا بيوم.

نقول الله ومن بعده الوطن، الأب، الكبير، شيخ القبيلة والملك والسلطان والخليفة. كل هؤلاء ينسون أن مرتبتهم تجيء بعد الله ويصبحون من نقدس ومن نصلي له صلواتنا الخمسة زائدًا صلاة الجنازة المحسومة والمحتومة للعربي وبخاصة إذا كان مسلمًا. هؤلاء هم الوطن والوطن أصبح امتدادًا مختزلاً لهم. وهم في عليتهم، قد نسوا 'أسفل السافلين' مِن القوم. وتجاهلوا أغلبياتٍ وبدائلاً وحلولاً ترضي الجميع، في حين أن أحدًا لا يرضى ولا يقتنع. وما زال بعضهم يحاور ويناور من أجل مساحةٍ أكبر من كل شيء، فسحةٍ رحبةٍ من كلمةٍ لا يمكن أن نشبع منها ونتشبع بها أبدًا. كلمة ولا أجمل ولا أروع ولا أرقى ألا وهي؛ الحرية، ما أحلى الحرية!

الحرية وما أدراك ما الحرية؟ الحرية هي واحدة من أكثر الأسئلة الوجودية والفلسفية وحتى الروحية والدينية، إلى حدٍ ما، التي يجب أن نركز عليها في حياتنا الدنيوية. ما هي الحرية وما هي مكوناتها؟ وما هي حدودها؟ كلها أسئلة مشروعة. وهل برأيكم تتجزأ الحرية؟ الحرية التي نتغنى بها، والتي طالما قرناها بالوطنية وبالنشيد الوطني لبلادنا. الحرية المنغمسة بالدم، بالشهداء، بالمجانية وبالتضحية. الحرية المنقسمة والحريّة المتفككة والحريّة العاجزة والحرية القادرة والحريّة الجزئية والحريّة الكلية والحريّة السطحية والحريّة العميقة والحرية الإستراتيجية والحرية التكتيكية والحرية المرحلية والحرية الشمولية والحرية المحدودة والحرية المطلقة. والحريّة التي نحلف ونقسم باسمها، والحريّة هي بيت القصيد. لكن ما هي رحلة التحرر؟ وَمِمَّا علينا أن نتحرر يا حلب؟ وِمنْ مَن؟ ولماذا ينبغي علينا أن نتحرر؟ وكيف؟ وهل سيجرؤ أن يحررنا أحد ونحن جميعنا مسؤولون عن مستنقع الحرية الكريه، الذي نقبع فيه معًا في سوريا وفلسطين واليمن والعراق وليبيا؟

وقد يفكر كثير من الناس بأن الله يأتي بعد الوطن وليس قبله، وهذه قد تسمى علمانية أيضًا مما يعني أن هناك مقاومة لهكذا كلام باعتباره كفرًا وتتكدس الحقائق خلف التهم الدينية وغيرها. والغرض من كل هذا إيقاع الناس في مطبٍ وإشغالهم عن الحقيقة، لكي يتجنبوا الحديث في الآشياء المهمة والتي تفتح آفاقًا حقيقيةً في الدماغ. العقل الذي قد يكون هو أعظم ما خلق الله في أجسامنا، لكي نرى الحقائق في عقولنا ومن خلال بصائرنا، التي تحمل رؤانا الداخلية وهي خرائط ذهنية لتوقعاتنا. وباستطاعتنا كبشر من أي ملة أو دين أو جنس أن نغير من كثيرٍ من مفاهيمنا الخاطئة وطرق تفكيرٍ مغلوطة، تعتمد على الثقافة الإتكالية، وتغييب العقل وتجهيل الإنسان وتهميش الإنسانية وتبث سموم الإنتحار لفرض وجهة نظر أو للمطالبة بحق شرعي مسلوب، لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة التي تطرح القضايا فيها للنقاش أو هكذا يظنون. ويذهب الدم هدرًا ومن ثم يأتي الرد بتعسف الدولة وإرهابها غير آبه، غير مكترث، على المستوى المحلي والإقليمي والدولي. وتستمر الحلقة المفرغة ولم يعد من الممكن كسرها لأنها أصبحت تجارة وصناعة الموت مقابل لاشيء، لا حرية ولا حتى وهمها وبدون حل جذري وعادل جدًا جدًا جدًا للفلسطينيين وللسوريين والعراقيين والليبيين وللعرب. وهنا، علينا أن نتمعن في كلام الشاعر الكبير محمود درويش: 'فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا'.

حلب معكِ حق تسألي: 'إيش في، في السما؟' والجواب التقليدي للحلبي هو: ' في قاق عّم بيقاقي' وتلفظ القاف ألفًا باللهجة الحلبية والقاق هو طير. وهذا مثل على روح فكاهة الحلبيين، التي بهتت الآن. إلا أن طيور حلب فولاذية لا تجلب البهجة لأهالي ...ما تبقى من حلب من خراب ودمار وحزنٍ يائسٍ عميق. من لكِ في السماء فوق يا حلب؟ من يكتب تاريخك الآن؟ ومن سيقف منحنيًا أمام أمجادك يا حلب؟ من عندك، سننطلق يا حلب نحو التحرر من الأزدواجية والنفاق المحليين والدوليين، من هؤلاء الذين يحملون مشعل الحرية ليحرقوكِ به يا حلب، بينما يضيئون دربهم به. بعدك حلب لا مقدس على هذه الأرض سوى الإنسان. ولا نحتكم إلا إلى الضمير الإنساني الحي والعادل. ومن المنطقي، ومن باب المعاملة بالمثل، أن لا نقبل وأن لا نطلب لأنفسنا نظمًا علمانية في الدول 'الإسلامية' دون أن يقترن ذلك في المقابل بلبنان علماني وبإسرائيل علمانية. من عندك حلب، تبدأ كل التساؤلات الإستفزازية كلها حتى المحرم والممنوع منها ولا تنتهي وتضيع الأجوبة وتصبح معقدة، فهل أنت يا حلب الطريق إلى فلسطين حقًّا؟ أم أن السماء انحنت لتلتقط موتاكِ؟

نيسان ـ نشر في 2016-12-25

الكلمات الأكثر بحثاً