كيف نعرف "محتويات" 2017؟
عائشة بلحاج
كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية
نيسان ـ نشر في 2017-01-23
ماذا تحمل سنة 2016 الجارية من هدايا لمن استطاع النّفاذ من الآثار الجانبية لسابقتها التي تُعد من السّنوات الغربية التي مرّت على العالم، قضت على كلّ أمل كان يقاوم العتمة في قلوب المتفائلين بأنّ الغد أفضل، فأصبحوا هم أيضًا ينامون وهم أكيدون أن الغد أسوأ، لا يعرفون مثلنا بما سيأتي، لكنّه ليس أفضل.
نحن الذين نخطو أولى خطواتنا في سنة جديدة، في عالم يرأس دولته العظمى رجلٌ مجنون، ويرأس القوّة الثانية السابقة التي تحاول جاهدةً تسلق القمّة مجددًا، رجل لا يقل جنونًا عن ذاك. لا نعرف ماذا تحمل هذه السنّة، لكن حدسنا يقول إنها ستكون أجنّ من التي ودّعنا، من دون أن نتخلّى عن فضولنا في أن نعرف على أي قدر من الجنون ستكون، حتى نشحذ صبرنا كاملاً لنلوّح بخيبة أقّل لمرورها. مثل رغبتنا في فتح أي شيء مغلف جيدًا، لندرك طبيعة ما يحمل بالضبط، على الرغم من أنّنا نعرف مسبقاً أنه هدية، أو قنبلة. لكننا نريد تحديد نوع الهدية في الاحتمال الأوّل، والوقت المقدّر للانفجار، لنعرف ما إذا سيكفي للركض فقط بأرواحنا، أو أنّه سيكون كافيًا لنحمل ألبوم الصّور، ونحذّر الجيران اللّطفاء، في الاحتمال الثاني، فمن طبع الإنسان أن يسعى إلى المعرفة القصوى وبأي ثمن.
كان أخي الصّغير يفتحُ كل الأشياء الإلكترونية في البيت، ليرى ماذا يوجد داخلها، وعند محاولة إعادة تركيبها كان يفشل، وبهذا كانت هذه الأشياء في خطرٍ دائم. السّاعات (المعلّقة والمحمولة)، المذياع الصغير الذي كنت أدّخر طويلا لشرائه، وطبعًا لُعبه كانت أوّل من يذهب ضحية حبّ المعرفة. مرّة امتدت يده لآلة الغسيل حيث 'تُلبّس' بمحاولة فتحها قبل نجاحه لحسن الحظ.
كان يؤرّقني سؤال وحيد، كيف يطاوعه قلبه على إفساد الأشياء، من أجل إرضاء فضوله فقط؟ فحتى لو كانت ملكه، فهو يفسد شيئًا كان ليستمتع به طويلًا. وفي الغالب، لم يحصل عليه بسهولة. وإن كان في ملكية آخرين فهو يعرّض نفسه لغضبهم، لكن رغبته الشّديدة في معرفة ما يوجد داخل الأشياء، وكيف تشتغل، كانت أقوى من كلّ شيء آخر.
الآن، أجد هاجسه معقولًا ومشروعًا، فلو أنّنا نعرف الموجود داخل الأشياء التي نحمل همّها
'للحقائق نسخ كثيرة، تتعدد بتعدّد الزّوايا التي ننظر من خلالها' طواعية، جاهلين بمحتواها قبل أن تنفجر في وجوهنا، أو التي نتطلّع جاهدين إليها، مع أنّها قد تحمل أنباء تسوءنا، لو اطّلعنا على مصير الخطوة، قبل أن نخطوها، فيما إذا كانت ستدوس لغمًا ما، أو تحلّق بنا في سابع سماء. لو علمنا ما ينتظرنا خلف كل باب نطرقه، أو نفتحه. هل كانت الحياة لتختلف؟
كنت أشاهد فيلمًا عن 'ويكيليكس' وأفكّر: هل ما كلّ ما تمّ نشره حقيقي؟ ومن يقف خلف جوليان أسانج؟ ألن يحاول أحدهم نشر هذه الحقائق، لأنه يحاول إخفاء أخرى أخطر، أو هي أنصاف حقائق تكشف لضرب جهة ما؟ يقول جوليان نفسه في الفيلم 'لا تصدّقوا ما يُقال لكم، من أراد الحقيقة فليبحث عنها بنفسه'.
وعودة إلى إمكانية فتح الأشياء المغلّفة، لإرضاء الحاجة إلى المعرفة التي تكشف ما يختبئ خلف الهياكل الخارجية التي تكون خادعة، وموحية بهوّية ملتبسة لها. هناك برنامج أميركي يعتمد على فكرة البحث في الأشياء، فيفتح مقدّمه كل الآلات التي يمكنك أن تراها، ليرى ماذا يوجد داخلها. اسم البرنامج SUKID، كل حلقة يفتح المذيع أدواتٍ وآلات ثمينة، لمعرفة محتوياتها، وكيف تعمل. مُرضيًا فضول آلاف في معرفة محتويات هذه الأشياء. هذا يعني إتلافها، فلا شيء يعود إلى حالته الأولى، بعد أن تمتد الأيدي الفضولية إليه، لكنه ثمن المعرفة الباهظ الذي تدفعه القناة المنتجة، وتسترجعه مضاعفًا ممن يرغب في عرضها. لذا، يتفنّن المقدّم في تدمير الآلات التي يفتحها أمام الشاشة، حتى تقدّر ثمن المعرفة التي ترغب فيها، وإذا ما كنت مستعدًا لمعرفتها. ما إذا كنت قادرًا على تكلفة المعرفة، وأنت الرّاكض خلفها، رافضًا اتخاذ موقفٍ معيّنٍ تجاه الأشياء، قبل أن تعرف، فهل أنت مستعد لثمن هذه المعرفة؟ والأهم هل أنت مستعد لما ستكشفه المعرفة لك؟
والأصعب من ذلك كله، أن تدرك أنّه ليست هناك حقيقة واحدة، وكيف أن للحقائق نسخًا كثيرة،
'في الحرب في سورية، تكشف وسائل الإعلام جزءًا مما يحدث هناك فقط' تتعدّد بتعدّد الزّوايا التي ننظر من خلالها أو انطباعاتنا السّابقة التي تجعلنا نرى ما نبحث عنه مسبقًا. خصوصاً أنّ من صفات الحقيقة أيضًا أنّها قد تختبئ حيث لا يظنّها الآخرون، قد تكون أمامهم طوال الوقت، صارخةً في وجوههم مثل شمسٍ ربيعية حارة، فيما هم يبحثون تحت الأرض، يحفرون بدأب النمل أنفاقًا تحمل لهم متاهات فقط. وقد يهربون منها ويتظاهرون بعدم رؤيتها، على الرغم من أنّها تجلس معهم على المقعد نفسه. مثلما فعل موباسان، عرّاب القصّة القصيرة الفرنسية الذي كان يكره برج إيفل، ومع ذلك، كان يجلس في مقهى قربه، قائلًا إنه المكان الوحيد الذي لا يراه منه. كان يهرب من رؤية البرج بالاختباء بظلّه.
لم يعد في مقدورنا أن نتخذ موقفًا من حدث أو قضية ما، على الرغم من عدالتها، تخوفًا من أن يتبيّن لاحقًا أنها مُختلقَة أو أنها تخدم جهة معينة، أو أنّك مدفوعٌ إلى التّعاطف مع جهةٍ دون أخرى، لأنّ جهات تجعلك تفعل ذلك بتسليط الضّوء على جزء من المشكل، الجزء الذي يخدم مصالحها. أو تكشف الحقائق التي تجعلك تتعاطف معها، وما خفي كان أعظم.
في الحرب في سورية، تكشف وسائل الإعلام جزءًا مما يحدث هناك فقط، وأنت لا تعرف إن كان ما يحدث في منطقة أخرى هناك أشدّ مما يحدث في المنطقة التي تبدو لك متضرّرة أكثر. لأنّ وسائل إعلام عديدة شاءت، وفق أجندة معيّنة، أن تراها كذلك. لم التّركيز الإعلامي على الحرب السّورية وغض الأنظار عن حرب اليمن؟ لم التّركيز على حدث اغتيال السفير الروسي بهذا الشّكل، فيما يتم التّعتيم على ما يرتكبه رجب طيب أردوغان في حق الكرد؟
يأخذ المتلقّي العادي المعلومة التي تصل إليه، ويصدّقها كما هي، بل يصدق الرّواية الرسمية لبلده، والواعي يصدّق قنوات معينة يظنّ أنها أكثر حياديةً وقربًا من الأحداث، الأكثر وعيًا يقلّب بصره في السّماء، بحثًا عن الحقيقة التي لا يجد سبيلاً إلى معرفتها، فيشكّك في كل شيء تفاديًا لأن يُخدع. لذا، من الطبيعي، وهو يضع رجليه الاثنتين في هذه السّنة، أن يشعر بأنّنا أحوج من أي فترة تاريخية إلى زرقاء اليمامة.
مشاركة