انهيار مدينة
نيسان ـ نشر في 2017-02-15 الساعة 01:20
أقسم إنني لم أقصد أن أقضّ مضاجعكم، يا سادة، هو محض انهيارٍ طفيف في جبل الجوفة في عمّان قابل للترميم، وسأعود إلى حيث كنتُ، مواطنًا يتقن الاختباء عن عيون السادة 'المبجّلّين' من أمثالكم.
هو ليس 'انهيارًا'، كما ضخّمته الصحف اللعينة، بل مجرّد أربع بنايات تصدّعت في ذلك الجبل 'الأجوف'، القائم في وسط عمّان، عاصمتنا التي دفعنا مبالغ جيدة، من أجل عيونها، لمطربين استقدمناهم إلى مهرجاناتنا السنوية، فغنّوا لها ما طابت له حناجرنا: 'عمّان في القلب'.. 'أرخت عمّان جدائلها فوق العينين'..إلى آخر القائمة من المطوّلات المزدانة بالأوركسترا، لنثبت للعالم أن عمّان 'لا تنهار'، فيما كان يتعيّن عليّ، أنا وأمثالي، أن نختفي طوعًا، أو كرهًا، عن تلك الحفلات الغنائية، كي لا نتسبب بتلوث بصري للسادة 'الضيوف' الذين يدخنون السيجار، ويستمعون بشغف لأغاني عاصمتنا المهيبة.
أما 'الاختباء' الذي بدأ بـ'الإخفاء'، فليس جديدًا علينا، نحن 'المكنوسين' إلى الساحات الخلفية، والغرف المعتمة، فهو فنٌّ تعلمناه وصرنا نعرف طريقنا إلى الزوايا، منذ أوائل صفوف المدرسة، يوم كنا نتعلم أبجدية 'التهميش'، فقرّر 'مسؤول كبير' ذات يوم أن يزورنا.
بالطبع، لم نكن نعلم، نحن المهمشّين، شيئًا، عن الزيارة، لكن الترتيبات التي سبقتها، أشعرتنا باقتراب حدثٍ جللٍ من مدرستنا، خصوصًا، حين أُمرنا، نحن الطلبة الفقراء حصرًا، لا الأثرياء، أن نشارك أذنة المدرسة، في عمليات التنظيف الشاقة، للمدرسة، والصفوف، وجمع المخلفات والقمامة من حولها، ومن كل الطرق، التي يمكن أن يسلكها المسؤول إياه.
وفي اليوم الموعود للزيارة، تم جمعنا، نحن أصحاب الملابس الرثّة، والجيوب الفارغة، منذ الصباح، لنتلقى أمرًا بالعودة إلى بيوتنا، والإبقاء على الطلبة الميسورين فقط، ففرحنا كثيرًا، يومها، لكننا بكينا بعد ذلك، حين أدركنا السبب الحقيقي وراء 'الإجازة القسرية'.
آنذاك، عرفنا حجم 'الحيّز' المخصّص لنا في عاصمتنا الحبيبة، وأدركنا مبلغ الثمن الذي يتعيّن علينا أن ندفعه لحشر أجسادنا وأحلامنا في هذا الحيز الضيق.
كما عرفنا، بعد ذلك، بعقود، مبلغ الثمن الذي ينبغي أن ندفعه، إذا حاولنا تجاوز ذلك الحيز، خصوصًا، لمن يحمل في نفسه، أحلامًا كبرى لا يرضى عنها 'سادة آخرون'، متخصصون بوأد الأحلام في مهدها، فيتحوّل 'الإخفاء' إلى غرف أخرى، أضيق بكثير، وأسقف أوطأ من الأرض ذاتها، وسنضطر، كذلك، إلى تنظيف الساحات والزنازين، كلما قرّرت لجانٌ من ذوي الشعور الشقر والعيون الزرق، أن تزورنا وتطمئن على 'أوضاعنا'، وعلى الأغلب لن تجدنا، لأنه سيتم إخفاؤنا عنهم، على أسطح السجون أو في أقبيةٍ معتمة، ولربما صدحت أغنية 'عمّان في القلب' من مكبرات الصوت؛ لتطغى على أصواتنا، إذا قرّر أحدنا أن يصرخ لينبه اللجنة إياها إلى وجودنا.
لم تكن 'طاقية الإخفاء' لعبةً نمارسها، بل أضحت حقيقة في حياتنا، وصار في وسعنا أن 'نختفي'، عند أدنى صافرة 'مسؤول'، ومع طول أمد الاختفاء المتكرّر، صرنا أشباحًا، لا يراها المسؤولون، خصوصًا، بعد أن أودعونا، في 'جوف' العاصمة، وأطلقوا عليها، مسمًى مقصودًا بدلالاته: جبل الجوفة، حيث الأحلام الجوفاء تختبئ هناك.
لكن، يبدو أن عاصمتنا تضامنت معنا، هذه المرة، على غير عادتها، وقرّرت أن تلفظنا خارجًا، لنصدم المسؤولين، وجيراننا في العالم الأول من مدينتنا، بمشاهدنا الرثّة، فأحسّوا بالرعب من هذه الكائنات التي بدت وكأنها تهبط من كوكبٍ آخر إلى 'عمّانهم'، وأصبحنا نمثل مقدمةً لا تحمد عقباها لرعب قادم جديد، خصوصًا، إذا قرّرت الجبال الأخرى التي تشبهنا أن تحذو حذو جبلنا، فتعلن الانهيار، فكان أن سارع هؤلاء المسؤولون جاهدين لكنسنا من الشوارع النظيفة التي لوثناها، بالبحث عن حلولٍ هامشية، تشبه هوامشنا ذاتها، في محاولة بائسة لتدارك هذا الانهيار المتسارع.
عمومًا، ربما نجحت تلك الحلول الآنية التي لا تلمس جذر المشكلة في احتواء تبعات 'الانهيار' جزئيًّا، لكننا خرجنا من 'الجوف' الضيق، ولم يعد ممكنًا أن نعود.