اتصل بنا
 

الآخرون هم الجحيم

نيسان ـ نشر في 2017-08-14 الساعة 15:56

السيلفيز والجحيم في عالم الفن والتواصل الاجتماعي.
نيسان ـ

قد يكون هذا التعبير المأثور “الآخرون هم الجحيم” للمفكر الفرنسي جان بول سارتر من أخطر ما قيل حتى يومنا هذا، هو وشم رائع ينبض في عتمة العالم، العالم الخارجي والداخلي على السواء، وما من مُنقذ بطولي من ذاك الجحيم إلاّ وقد ذاق طعم المنفى بسببه.

تعبير واشم، ليس لأنه جاء نابعا من صلب الفكر الوجودي المرتبط ارتباطا وثيقا بالمجتمع والفترة الزمنية التي انبثق منها، بل لأن معانيه قد نمت ونضجت اليوم لتتجلى في أبلغ تعبير في الصور الشخصية، التي جرى على تسميتها بالـ”سيلفيز”. صور مُلتبسة تشير على السواء إلى الإنغلاق على الذات، والإعتراف بالسلطة شبه الساحقة بالآخر وبنظرته إلينا.

وقد أوضح الكاتب جان بول سارتر في مقابلة له ما قصد في هذا التعبير في هذه الكلمات “الجحيم هو الآخرون، فُهمت دوما على نحو خاطئ، لم أقصد أنّ علاقاتنا بالآخرين يشوبها دائما الحذر والتوجس والخوف وبأنها علاقات جهنمية، قصدت شيئا آخر تماما، أعني، إذا كانت العلاقات مع الآخر ملتوية وفاسدة، إذن لن يكون الآخر إلاّ الجحيم”.

هذا “الجحيم” حاضر بقوة في معظم صور “السيلفيز”، وخاصة تلك التي تريد أن تظهر كل شيء إلاّ الجحيم النابع من العلاقة الملتوية أو الفاسدة مع الآخر، هي صور تنفيه، أي تنفي الآخر عبر استدعائه إليها ليكون عنصرا أساسيا ومُشكلا لها.

نضجت وامتدت بلاغة تعبير جان بول سارتر ليس فقط في صور السلفي المُصممة في غالبيتها بدقة لتبدو عفوية، ولكن أيضا في اللوحات الفنية المُبدعة والمختلفة اختلافا شديدا عن صور “السيلفيز” التي تغص بها مواقع التواصل الإجتماعي.

نذكر من هذه الأعمال الرائعة تلك التي قدمتها الفنانة سارة شمة والفنانة علا أيوبي والفنانة ميساء محمد والفنان أسامة بعلبكي، هذه أعمال لم يقدّمها رساموها على أنها “سيلفيز”، ولكنها هي كذلك بكل ما يمكن لتلك الكلمة “المستوردة” أن تعني.

هي أعمال رائعة ومسكونة بالمعنى أكثر بكثير من تلك التي قصدت بأن تكون “سيلفيز”، كما تلك الأعمال الفنية التي قدمتها صالة “آرت سبيس” في مدينة بيروت ضمن معرض فني مشترك للفنان العراقي محمد الشمري والفنانة الإيرانية سارا نيروبخش تحت عنوان “سيلفي-2”.

ربما أروع الأعمال الفنية اليوم والتي يمكن تصنيفها “بالأوتوبورتريه” المعاصر هي التي تناولت الذات بهوس ونهم لا حدود له دون أن ينم ذلك عن النرجسية بمعناها الضيق، ولا عن محاولة لفهم الذات كما في لوحات فينيست فان كوخ الشخصية، بقدر ما تشير إلى الإنكفاء إلى الداخل.

الداخل ككون تنعكس فيه كل ارتجاجات وتمزقات العالم وخيباته، إنه الداخل الإنساني والمعاصر والمغاير تماما كالذي تغنّى به بشكل رائع الإمام علي بن أبي طالب، حين قال “وتحسب أنك جرم صغير، وفيك انطوى العالم الأكبر”، لأن في هذا العالم الذي تطفو ملامحه على صفحات معظم “السلفيز” لا ينطوي إلاّ الفراغ، غياب المعنى، أو تخمّر الأسى في صور “سياحية” زائفة، إذا جاز التعبير.

خلال السنة السابقة نظم معرض في مدينة مونتريال الكندية بعنوان “الذكريات المستقبلية”، وتدور الأعمال حول موضوع المكان الإفتراضي كساحة لتوثيق المشاعر والصور، ومن ضمن الأسئلة المطروحة كانت هذه الأسئلة: هل ما نعرضه على صفحات التواصل الاجتماعي ليس إلاّ كذبا؟ هل ما لا نعرضه موجود؟ وهل العزلة باتت الوجه الجديد لما يُسمى بالحياة الاجتماعية؟

قد تكون هذه الأسئلة درامية أكثر مما نستطيع تحمّله كبشر بات الصقيع هو المادة الأولية للجسور التي تربط/تفصل ما بيننا، ولكن كم تبعد هذه الدرامية عن الواقع؟ ألسنا في مسارنا التطوري هذا ننكب على صناعة جحيمنا وبذلك جحيم الآخرين؟

نيسان ـ نشر في 2017-08-14 الساعة 15:56


رأي: ميموزا العراوي

الكلمات الأكثر بحثاً