اتصل بنا
 

عفيف بهنسي يغادر الخراب

كاتب اردني مغترب

نيسان ـ نشر في 2017-11-05 الساعة 16:36

نيسان ـ

أتذكّرني، في شتاء عام 1979، أقرأ في كتاب 'جمالية الفن العربي'، وكنت في السنة الأخيرة في الإعدادية. لا أفهم كثيرا مما فيه، فهو على قدر من الاختصاص، وإنْ بمرونةٍ أكاديمية، لكنني وقفت، ربما، على الروح العلمية فيه، وهي ملمحٌ واضحٌ فيه، كما تأكّدت منها لمّا قرأت الكتاب تاليا، مرتين. وأحدس أن الرسوم والصور والملاحق في الكتاب ضاعفت من انجذاب الفتى الذي كنتُه إلى ما اشتمل عليه ذلك المؤلَّف، والذي صدر ضمن سلسلة عالم المعرفة التي ما زال ينشرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، وكان والدي، رحمه الله، حريصا على توفير كتبها شهريا في مكتبتنا المنزلية. ولعل الإفادة المُضافة من تلك القراءة، في ذلك الشتاء، أنها عرّفتني، في يفاعتي، على اسم عفيف بهنسي، مؤلف هذا الكتاب الذي يحتفظ بقيمته المعرفية والتحليلية، وبوجاهة اجتهاداته، وقد انصَرَفت إلى تأكيد الشخصية الحضارية الخاصة للفن العربي، ومنها أن هذا الفن 'مرتبطٌ بالأمة العربية، وبدايته مرتبطةٌ ببدايتها، وتطوره العضوي مرتبطٌ بتطور هذه الأمة العضوي، في جميع مراحلها'.
ليس عفيف بهنسي اسما فقط لباحثٍ ومؤرّخٍ في علوم الجمال والآثار والعمارة والفنون والحضارة العربية. إنه أيضا اسم لعلّامةٍ ومؤسّسة، فالرجل صاحب دور استثنائي في بلده سورية، وشخصيةٌ مدهشة. هذا ما تشعر به عندما تُطالع عمّا أنجزه، وما بناه. وعندما تستعرض عناوين مؤلفاته التي تزيد عن التسعين، نحو عشرين منها بلغاتٍ أجنبية، منها 'سورية الحضارة والتاريخ' في ثمانية أجزاء، و'تاريخ فلسطين من خلال علم الآثار' و'العمارة في مصطلحات الفنون' و'العمران الثقافي' و'خطاب الأصالة في الفن والعمارة'. حاز الدكتوراه في تاريخ الفن من 'السوربون'. تولى منصب مدير عام المتاحف والآثار، فأطلق عشرين متحفا في المحافظات السورية، وكان قد أسس كلية الفنون الجميلة في دمشق، وكان فيها أستاذا، وأسّس معهدين للفنون التطبيقية والآثار والمتاحف، وثلاثة مراكز للفنون التشكيلية، واستحقّ وصفه 'حارس الآثار السورية'، واستحقّ أن يسمّى شارعٌ باسمه في دمشق.
في غضون الخراب والهدم والتهديم الذي تتعرّض له حواضر سورية، ومنائر ومعالم ومتاحف، وفي أتون تهشيم البلد كلها، يغادر عفيف بهنسي الدنيا عن 89 عاما. أغمض عينيه، بعد أن شاهد الجمال الذي اعتنى به، وظلّ يحفر في تفاصيله وتاريخه، ويحثّ، بهمة عالية، على حمايته وصيانته، يموت، ويقتله المسلحون المتحاربون. ليست هذه سورية التي انشغل بحجارتها وقصورها وعمائرها وآثارها، وبالحضارات التي أقامت فيها، وعَبَرت فيها. كان يقول، وهو الموسوعيّ والمرجع والمعلم، إن السوريين أول من صنع أقدم منزل في التاريخ قبل اثني عشر ألف عام. وفي الوسع أن يقال الآن إن السوريين الآن هم أبرع من حطّموا بأنفسهم بلدهم، في أثناء الحرب الراهنة، وأسبق منذ صار توحش العمران الأبله يعتدى على مآثر عتيقة وأصيلة في البلاد، بفعل شركات سرّاقٍ مرتبطين بالسلطة، ومنتفعين منها.
ضمّ كتاب 'جمالية الفن العربي' الذي لا يبرح مطرَحَه في وجدان صاحب هذه الكلمات فصولا عن تكوين المدينة العربية، وعن العمران العربي، وعن تكوّن العمارة العربية بعد الإسلام وأسسها الجمالية. وضمّت كتبٌ أخرى عديدة لأستاذ الأجيال، عفيف بهنسي، حبا وفيرا لجمالياتٍ بديعةٍ في فنون الحضارة العربية، في الخطوط والمآذن والرقش والزخارف والفسيفسائيات وقباب المساجد والخزفيات، وفي كثيرٍ غير هذا كله، مما لا عدّ له من تعبيرات الجمال الموروثة العربية. وتلقّى تلاميذُ بلا عددٍ من البحّاثة الرائق علما وفيرا في هذا كله. ورحيله، في لحظة انتهاك سورية وتخريبها، وزمن الحرب على قديمها وجديدها، مناسبةٌ لإطلالةٍ أوفى على ما كتبه، وما أوصى به. ومناسبةٌ لصاحب هذه السطور لاستدعاء متعةٍ بديعةٍ حازها في قراءته كتابا عن جمال الفن العربي، قبل ثمانيةٍ وثلاثين عاما، وقد شحّت الآن أسباب المتعة في زمن خراباتٍ عربيةٍ وفيرة، في سورية وغيرها.
مشاركة

نيسان ـ نشر في 2017-11-05 الساعة 16:36


رأي: معن البياري كاتب اردني مغترب

الكلمات الأكثر بحثاً