اتصل بنا
 

عن (تعليب) فلسطين و(تسليع) محمد الدرة في السوبرماركات

كاتبة أردنية

نيسان ـ نشر في 2017-12-09 الساعة 11:31

نيسان ـ

عام 2000 , مشهد تلفزيوني من ثوان قليلة استطاع أن يهزّ وجدان العالم كله , إنه مشهد قتل الطفل الفلسطيني محمد الدرّة وهو في حضن أبيه أثناء مواجهات بين القوات الاسرائيلية والفلسطينيين في غزة .
كنتُ وقتها فلسطينيةَ الوجدان بالمطلق , كلّ أشيائي الحميمة مطبوعة باسم فلسطين , فتى أحلامي بكوفيّة, حلمي أن ألبس ' إسوارة العروس ' بالطريقة الجنوبية , رفيقي المفضل أحمد العربي, كاسيتاتي فلسطينية , مطربي المفضل ثوري , خريطتي المفضلة لفلسطين , ميدالية مفاتيح خزانتي السريّة خريطة فلسطين , تجليد دفاتري صورة لمارسيل خليفة , كانت فلسطين لي وجدانا خالصا , وجدانا لا يعني إلا الحق و الطهر والنقاء والبراءة .
وعلى سيرة البراءة , قبل دخولي جامعة اليرموك ذهبت لدائرة المخابرات الأردنية للحصول على ورقة حسن سلوك لأستكمل أوراق الحصول على المكرمة العسكرية , قال لي المحقق مستنكراً : ' ولماذا تخطبين في الإذاعة المدرسية عن فلسطين ؟! ' ...رددتُ ببراءة : ' وماذا يعني ؟! الملك نفسه يخطب في التلفزيون عن فلسطين ؟ ' ..ردّ : ' اسكتي بلا فلسفة ' .
بذات البراءة استقبلتُ مشهد قتل الدرة , رافقني الطفل المغدور أياما , ونام بحضني ليالي , محمد الدرة كان لي البراءة المذبوحة غدرا , الطهارة المنسيّة , محمد كان فلسطين المسبيّة , وأنا لم أكن في ذلك الوقت أقبل بأقل من فلسطين معنى لمحمد , ولا بأقل من البراءة والطهر معنى لفلسطين ...حتى بدأت الحقيقة .
كنت أتجول في السوبرماركت فقرأتُ اسم محمد الدرة على عبوة رب البندورة , تناولتها وقرأتُ مكان الصنع : سورية ...شعرتُ بغضب , كنت بدأت حينها - مع انتشار الفضائيات والصورة وسهولة سيلان المعلومات _- أشكّل - كما غيري - صورة غير نظيفة للمنتج العربي عموما والسوري خاصة, وبعد زيارات لسورية رأيت الغش هناك ممارسة طبيعية ومقبولة في تبادل المنتجات , سواء في الجودة أو في قيمتها وسعرها , وفهمت حينها ما كان يتداوله الناس في محيطي عن شطارة التاجر الشامي , و الشطارة لغويا ' الخبث والدهاء ' واجتماعيا الفساد , وحضاريا التخلف .
هل أضعف إذن وأشتري هذه العبوة كرمى لمحمد الدرة وفلسطين ؟ لم أستطع ...لو كانت هذه العبوة تجسيدا فنيا مثلا لاشتريته وأنا أفعل هذا كثيرا , ولكن أن يبتزني هذا التاجرالشاطر في صحتي فيدغدغ وجداني الإنساني والقومي ويستغل مشاعري لفلسطين في منتج سيدخل جسدي وجسد أطفالي ولا أعلم ما سيفعل بنا من كوارث , فلن أقبل بهذا الاستغفال .
مشوار بدأ بعبوة بندورة الدرّة على رف السوبرماركت , ومرّ عن جندي الحدود على ' كاونتر نصيب ' ومبلغ المئة ليرة سوري , وانتهى بمخيم الزعتري ....

نيسان ـ نشر في 2017-12-09 الساعة 11:31


رأي: عندليب الحسبان كاتبة أردنية

الكلمات الأكثر بحثاً