اتصل بنا
 

'القسوة ليست شيئاً نفعله، بل شيئاً نصبحه'

وزير أردني سابق، باحث ومتخصص في الفكر الإسلامي والإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي في العالم العربي. من كتبه "السلفيون والربيع العربي"و" الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي"و "الحل الإسلامي في الأردن" و"الإسلاميون والدين والثورة في سورية".

نيسان ـ نشر في 2025-04-23 الساعة 08:18

نيسان ـ الاقتباس أعلاه لكنعان مكية، كتابه «في القسوة».. فثمة ما يستحق التوقف أمامه مليًا في الحالة الأردنية الراهنة، ليس على مستوى السياسات العامة فقط، بل في طبيعة العلاقات الاجتماعية، وطريقة تداولنا للنقاش العام. فالقسوة أصبحت جزءًا من النسيج اليومي في كلام الناس، في النقاشات، في التعليقات، وفي «الترندات» التي تتصدر وسائل التواصل الاجتماعي، شيء غريب فعلاً يثير الدهشة عندما تتابع وترصد كثيراً من الأراء والمواقف والأفكار (على مواقع التواصل الاجتماعي)، دعك مما يصعد إلى السطح بوضوح من مصطلحات ومفاهيم تحريضية وتخوينية واتهامية بين الناس، لكن ما يجدر الوقوف عنده فعلاً هذه القسوة بيننا؛ من أين أتت؟! ولماذا؟! وما هي مبرراتها أردنياً!
يعود المفكر العراقي كنعان مكية في كتابه الرائع « في القسوة» إلى تفكيك ظاهرة القسوة، ليس بوصفها أداة من أدوات النظام فحسب، بل كبنية داخلية تتسرب إلى المجتمع، إلى الروح، إلى اللغة. في وصفه للعراق ما بعد صدام، يتحدث عن مجتمعات خرجت من الاستبداد لكنها لم تخرج من ثقافته، لأن القسوة تحولت إلى نمط تفكير وسلوك، ويحذّر من اللحظة التي تصبح فيها القسوة طريقة حياة «الناس الذين كانوا ضحايا للقسوة هم أنفسهم من صاروا يمارسونها، بلا تفكير، بلا وعي، كأنّها أصبحت اللغة الوحيدة الممكنة للتعبير عن الألم والغضب»!
لا يعالج مكيّة القسوة بوصفها مجرد ممارسة سلطوية، بل كبنية معرفية- نفسية تنتج في سياق سلطوي طويل الأمد، وتتجاوز العنف المادي لتصبح نمطاً من التفكير، فيتشرب الأفراد العاديون هذا النمط من السلوك فيصبح مقبولاً ومبرراً، بل ربما واجباً وطنياً! ويؤول «خطاب القسوة» إلى تحلل الحس الأخلاقي الجماعي؛ وانهيار مفهوم الحق في الاختلاف، وتمجيد الحدية في اللغة والخطاب وإكساباه قيمة بطولية فأنفي الآخر بدلاً من النقاش معه، وفي مواجهة ذلك يدعو مكية إلى ثورة أخلاقية ضد القسوة تبدأ من إعادة بناء الثقة واستعادة الخطاب الإنساني العادل، وتمكين الحوار المدني كمخرج من مأزق العنف الرمزي واللفظي.
لا نحتاج إلى مجهر لرؤية ملامح مشابهة في الخطاب العام الأردني اليوم، فوسائل التواصل الاجتماعي، التي بدأت كمنصات للتعبير والانفتاح، تحولت إلى ساحات مفتوحة للاتهام، والتخوين، والتشكيك، والعنف الرمزي. الأسوأ أن هذا لم يعد مقتصرًا على طرف دون آخر؛ فالموالون يمارسون الإقصاء باسم الدفاع عن الدولة، والمعارضون يردّون بخطابات لا تقل حدّة، وأحيانًا أكثر تجريحًا وعدمية. في الحالتين، تُستبدل الفكرة بالشتيمة، والنقاش الشخصي والاختلاف بالتخوين، وتغيب، شيئًا فشيئًا، قيم الحوار المدني، والاعتراف بحق الآخر في التعبير عن رأيه دون أن يُعامل كعدو أو خطر وجودي. ما يطرحه مكية يصلح هنا: الخطر الأكبر حين يتحول المجتمع ذاته إلى سلطة مصغرة تُمارس القسوة ضد أفراده باسم الولاء أو المعارضة. حينها، تصبح كل محاولة لفهم الواقع تهمة، وكل دعوة للإصلاح تشكيكًا.
الأردن اليوم بحاجة إلى وقفة مع النفس. فخطاب القسوة - والتجريح والتطاول على الناس والتباهي بالمصطلحات الحادة- لا يصنع جبهة داخلية متماسكة، ولا يرسخ الولاء، بل يدفع الناس نحو الاصطفاف والانكفاء. نحتاج إلى أن نعيد الاعتبار للكرامة الإنسانية، إلى أن نؤمن أن الاختلاف لا يُضعف الدولة بل يقويها، وأننا لسنا مضطرين لأن نكون متشابهين كي نكون وطنيين. ولعل أول الطريق يبدأ من وسائل التواصل ذاتها، التي باتت مرآة مكبرة لأمراضنا الاجتماعية والسياسية. لعلنا نحتاج، كما كتب مكية، إلى «ثورة في المفاهيم قبل السياسات»، تعيد إنتاج علاقة أكثر رحمة، أقل قسوة، بيننا وبين بعضنا البعض، وبيننا وبين وطننا.

نيسان ـ نشر في 2025-04-23 الساعة 08:18


رأي: د. محمد أبو رمان وزير أردني سابق، باحث ومتخصص في الفكر الإسلامي والإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي في العالم العربي. من كتبه "السلفيون والربيع العربي"و" الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي"و "الحل الإسلامي في الأردن" و"الإسلاميون والدين والثورة في سورية".

الكلمات الأكثر بحثاً