اتصل بنا
 

الشهيد نصر جرار.. يدٌ واحدةٌ تقاوم! (تقرير)

نيسان ـ المركز الفلسطيني للاعلام ـ نشر في 2015-08-14 الساعة 19:15

x
نيسان ـ

يطرق باب البيت فيتناسى كل شيء.. ترتسم ابتسامة على محياه المشرق.. تبرق عيناه رونقًا دافئًا مطمئنًّا.. ينبض قلبه بالحب والحنان لأهله ولزوجته وأطفاله، ولكل الناس.

لم يتخيل أحد أن يكون هذا الوديع المبتسم ذو المحيا الجميل، والعينين الزرقاوين "العقل المدبر لكتائب الشهيد عز الدين القسام، وأسدها في شمال الضفة الغربية".

وبعد أن فقد يده اليمنى كاملة وساقيه في مقارعة الاحتلال، وأصبح قعيد الجسد -لا الهمة- قالت له زوجته: "ألا يكفيك كل ما قمت به؟ فأجابها بابتسامة عشاق الشهادة: "إن الله أكرمني فأخذ مني القليل وأبقى لي الكثير"، و"إن الجهاد فرضٌ عليّ حتى الشهادة ".. حتى نالها مقبلاً غير مدبر.

يرسم مسجدًا

بين أحضان أسرة متدينة مكونة من 12 فردًا، ولد الشهيد القسامي نصر خالد إبراهيم جرار، بتاريخ (1-10-1958)، ونشأ وترعرع في واد برقين، إحدى الضواحي الغربية لمدينة جنين.

لم تكن طفولته عادية كأقرانه؛ فقد كان متعلقًا بالمساجد، وتقول أخته الكبرى أم أمجد لـ"المركز الفلسطيني للإعلام": "التزم أخي بصلاة الجماعة منذ نعومة أظفاره، وأذكر أن المصلين كانوا يطردونه من المسجد لحداثة سنه، ومن شدة تعلقه بالمسجد، كان يرجع إلى المنزل ويرسم على سطح منزلنا مسجدًا ويصلي به".

وتضيف: "كان أخي جريئًا نشيطًا لا يخاف أحدًا إلا الله، يهوى "اللعب العسكري"؛ فكان دائمًا يصنع مجسمات طينية للدبابات ويلاعب بها إخوته، كما كان يمارس لعبة رفع الأثقال على الرغم من صغره". وتستدرك أم أمجد "إلا أنه كان رقيق القلب محبًّا للناس، مستغلاً جرأته ونشاطه في خدمتهم".

رفقاء المسجد

وبينما يلهو الأصدقاء في سنّه بملذات الحياة، كان لنصر وصديقه سامي حنيف اتجاه آخر؛ فقد تحابا في الله، وتعاونا على طاعته، وحملا هم الوطن.

لم يطل تفكيرهما طويلاً، وسرعان تحولت أفكارهما إلى واقع ملموس؛ ففي ليلة من ليالي عام 1977، وبعد التخطيط المحكم، والإعداد الجيد، قرر نصر وسامي مهاجمة أحد باصات الاحتلال التي تمر من جانب بلدة برقين.

وتروي أم صهيب، زوجة الشهيد نصر، العملية كما حدثها زوجها عنها، فتقول: "استيقظا كالمعتاد على صلاة الفجر، وصليا في المسجد، وانطلقا نحو الهدف المنشود، وانتظرا مرور الباص المقرر مهاجمته، وفعلاً، وحسب التخطيط مر الباص الصهيوني فبادراه بوابل من قنابل "المولوتوف"، (وهي عبارة عن قنينة زجاج مليئة بالبارود الحارق، وقد اشتهرت في انتفاضة الحجارة في 1987).

وتضيف: "بعد الهجوم المباغت، لحق جنود الاحتلال بنصر وسامي بعد أن اكتشفوا مكانهم، وأمطروهم بالنيران، ليرتقي سامي حنيف شهيدا إلى العلا، وينجو نصر بمعجزة ربانية، لكن لم يهن على نصر أن يترك رفيق دربه للمحتلين، على الرغم من كثافة النيران، وفور سقوط سامي أرضا حمله مسرعا وأبعده عن مرأى جنود الاحتلال، وبعد تأكده من استشهاد سامي.. ودعه ثم واراه عن الأنظار لكي لا يأخذ الاحتلال جثته، ثم عاد فورًا إلى منزله ونام بفراشه بهدوء تام دون أن يعلم أحد بما حصل".

في هذه اللحظة تتنهد أخته الكبرى، وتقول: "ولكن.. ما نامت أعين الجبناء في تلك الليلة؛ ففي اليوم التالي للعملية حاصرت قوات كبيرة من جيش الاحتلال منزلنا واعتقلوه، على الرغم من أنهم تفاجؤوا كثيرًا عندما رأوه؛ حيث كان عمره 19 عامًا".

مدرسة فكرية

وفي المعتقلات الصهيونية، وجه الاحتلال لنصر تهمة إنشاء خلية إسلامية مسلحة، والعمل العسكري ضد دولة الاحتلال؛ حيث تعرض على إثر هذا الاتهام لتعذيب قاس أثناء التحقيق معه، من أجل انتزاع الاعترافات منه بالقوة.

وتؤكد أم صهيب، زوجة الشهيد، على وحشية التعذيب الذي استخدم مع زوجها، فتقول: "كانت آثار التعذيب بالأسياخ الحديدة تبدو واضحة على ظهره، وعلى الرغم من صموده أمام قسوة التعذيب إلا أن محكمة الاحتلال لم تقتنع ببراءته وأصدرت بحقه الحكم لمدة عشر سنوات".

وفي المعتقلات الصهيونية لم تقعده قسوة السجان، ورفقاءَ الأسر عن العمل الإسلامي، وعلى الرغم من تعرض كل أسير يحمل توجها إسلاميًّا (إخوانيًّا) في تلك الفترة إلى محاربة بالقول والفعل من الاتجاهات العلمانية واليسارية، إلا أن نصر أصر أن يلتحق بجماعة الإخوان المسلمين، ليكون من أوائل مؤسسي الحركة الإسلامية داخل سجون الاحتلال الصهيوني.

وتتحدث زوجته عن فترة اعتقاله، فتقول: "كان المعتقل بمثابة "مدرسة فكرية" صقلت فيها شخصيته الإسلامية.. وفكره الوسطي، وحبه للدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله".

زوجة صابرة

وبعد أن انجلت عتمات عشرة أعوام من الأسر، تنفس الفجر بنسائم الحرية، ففي عام 1987 خرج نصر من أسره وبدأ يخوض غمار الحياة من جديد.. كان عمره 29 عامًا، فتزوج ثم لم يمض على زواجه سنة واحدة حين بدأ الامتحان الأول لها، باعتقاله من قبل سلطات الاحتلال بعد ان أنجبا طفلهما الأول "صهيب"، الذي لم يبلغ سوى 21 يومًا حينذاك.

تحملت أم صهيب الصعاب التي مر بها زوجها في مراحل جهاده، وفترات اعتقاله ومطاردته الطويلة، وعلى الرغم من قسوة الحياة التي مرّ بها نصر، وهموم الأمة التي ما فارقته يومًا، إلا أنه كان "قلبا نابضا بالحب" كما تحب أن تصفه زوجته، وتضيف: "كان عندما يدخل المنزل ينسى هموم الدنيا كلها.. يدخل بابتسامة تملأ وجهه، يمازحنا ويلاعبنا، كان للبيت في وجوده رونق يصعب وصفه".

رزقت أم صهيب أربعة أطفال، هم: صهيب (عام 1989)، وأحمد (عام 1991)، وجينا (عام 1998)، ومحمد (عام 2002).. ثلاثة قدر لأبيهم أن يراهم، والرابع أبصر الحياة بعد 37 يومًا من استشهاد والده.

الشيخ الحنون

آمن نصر بضرورة التعبئة الإيمانية والقرآنية، لصقل شخصية المسلم الجهادية؛ فقد كان ملازمًا للمساجد يعلم الأطفال القرآن ويحرص على تربيتهم وإعدادهم إيمانيًّا وفكريًّا، وكان يحرص دائمًا على ربط العبادات بمقاصدها الشرعية، ويطبق ذلك في حياته العملية ليكون قدوة لتلاميذه.

الفخر لجرار أن يكون الشخص الثالث الذي انضم إلى الطاقم التأسيسي للجنة أمول الزكاة بمحافظة جنين، ليعمل فيها مشرفًا في قسم الأيتام والفقراء، وتصف زوجته تعامله مع الأيتام والفقراء، فتقول: "كان الأيتام والفقراء يشكلون الجزء الأكبر من عطفه، ودائمًا يقول لي عن الأيتام إنهم أبناؤه، والفقراء بأنهم أسرته".

وتضيف: "كان لا يعرف طعمًا للأكل قبل أن يأكلوا، ولا يعرف الفرحة إلا إذا دخلت إلى قلوبهم.. وبعد مطاردة الاحتلال له، وتركه للعمل في لجنه الزكاة، كان الأيتام والفقراء يسألون عنه دائمًا: "أين ذهب الشيخ الحنون؟!".

ألا تريد أن تسلم؟

في عام 1992 شهدت مدينة حيفا عملية استشهادية قتل فيها جنديان إسرائيليان، وأسر آخر، ومباشرة توجه الاحتلال إلى منزل نصر ليعتقلوه، ويخضعوه لجولة تحقيق جديدة، تكشف لهم بعضًا من غموض هذا الرجل، وبعدما استيأسوا منه، ما كان منهم إلا أن أبعدوه في نفس العام برفقة 450 من قيادات حركة حماس والجهاد الإسلامي إلى مرج الزهور في جنوب لبنان.

وبعد عودته من مرج الزهور، لم يكد يلبث نصر بين أهله شهورًا، حتى اتهمه الاحتلال بالوقوف وراء العملية التي نفذها الاستشهادي القسامي رائد زكارنة في مدينة الخضيرة عام 1994، ردًّا على مجزرة الحرم الإبراهيمي، وباشر الاحتلال باعتقاله فورًا؛ حيث تعرض لأقسى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، ومكث في زنازين التحقيق العسكري أكثر من 98 يومًا، دون الاعتراف بكلمة واحدة.

وبعد هذه الفترة الطويلة من التحقيق التي مرت دون جدوى، يئست المخابرات الصهيونية منه، لأنه وباعتراف مخابرات العدو، كان متوازنا وهادئًا في أقسى مراحل التحقيق، وتتحدث زوجته عن تلك المرحلة، فتقول: "بعدما استخدموا صنوف العذاب الجسدي والنفسي بحقه، جاءه أحد الضباط موبخًا ومعنفًا: "ألا تريد أن تعترف وتنهي القضية؟"، فنظر إليه بهدوء.. وابتسم ثم رد عليه: (وأنت.. ألا تريد أن تسلم؟!)".

لم يثبت على جرار أي شيء من التهم التي وجهها الاحتلال له، لكن الاحتلال كان عنده قناعة خاصة بأن نصر يقف وراء العملية، فاستمر بتجديد الاعتقال الإداري له دون أي مبرر قانوني أو دليل على لائحة اتهامه، ليستمر اعتقاله حتى (6-1-1998)؛ حيث كان في تلك الفترة من أقدم المعتقلين إداريًّا.

انتفاضة الأقصى

كان نصر يعرف بالكتمان كما أكد كثيرون من المقربين منه، وتشير زوجته لذلك قائلة: "كنت دائمًا أسأله.. هل أنت فعلاً من قمت بهذا الفعل؟، فيرد عليّ مبتسمًا كعادته: هل تصدقين ما يقولونه يا ختام؟!".

وتتحدث أم صهيب عن بداية مطاردة زوجها في بداية انتفاضة الأقصى، فتقول: "في بداية الانتفاضة وتحديدًا في مطلع عام 2000، حاصرت قوات الاحتلال منزلنا بشكل مفاجئ ليلاً؛ حيث أحكم حصار المنزل بمئات من جنود الاحتلال الذين توغلوا مشاة لكي لا يلفتوا انتباه أحد إليهم".

وتضيف زوجته: "لم يبدِ نصر أي نوع من الارتباك، وقال لي إنه سيغادر المنزل.. حاولت أن أمنعه خوفا على حياته، لكنه أقنعني بهدوء وابتسامة بضرورة مغادرته للبيت، وخلال دقائق كان قد توارى عن الأنظار وخرج من المنزل.. بعد ذلك سمعنا إطلاق نار كثيف، ودارت اشتباكات مسلحة عنيفة في المنطقة.. لم نعرف ما الذي يجري بالضبط؛ حيث اقتحم الجنود المنزل وفتشوه بدقة متناهيه استمرت ساعات.. ولكن من شدة الاشتباكات انسحبت قوات الاحتلال من المنطقة".

وبعد انتهاء التوغل الصهيوني، عاد نصر للمنزل وقد عرف سر الاقتحام المفاجئ لمنزله، الذي كان القصد منه اغتياله، حيث كشفت كتائب القسام حينها عن مؤامرة من جهاز الأمن الوقائي، الذي اعتقل شابا من القسام اعترف لديه تحت شدة التعذيب، أنه مبعوث من القائد القسامي في نابلس الشهيد محمود المدني ليأخذ سيارة مفخخة من الشيخ نصر جرار، وفي اليوم التالي من هذه الاعترافات نصبت القوات الخاصة الصهيونية كمينًا لمحمود المدني، فأطلقت عليه وابلاً من الرصاص بعد تعقب خروجه من صلاة ظهر يوم الاثنين (19-2-2000)، ليرتقي إلى العلا شهيدًا، بعد ساعات من إصابته التي كانت حرجة جدًّا، وتنكشف هوية القائد القسامي نصر جرار، ليصبح من كبار المطلوبين للاحتلال في الضفة الغربية، وعلى الرغم من ذلك فقد تمت العملية التي خطط لها مع الشهيد المدني بنجاح، كما أكدت كتائب القسام.

تدريب المقاومين

وبعد انكشاف هويته للعلن، أصبح "أبو صهيب" يدرب مجموعات من الشباب المقاومين من مختلف الفصائل الفلسطينية على إعداد العبوات الناسفة وزرعها، وبعد ثلاثة أشهر من المطاردة، وفي إحدى عمليات زرع العبوات الناسفة على الطريق الالتفافي بالقرب من قباطية شمال مدينة جنين، كانت سرعة الأداء عالية، بسبب تواجد الجيش الصهيوني في المنطقة.. وعندما حاول نصر تفجير العبوة عن بعد لم تنفجر، فاقترب منها ليصلح الخلل.. فشاء قدرُ الله أن تنفجر العبوة.. لتقذف به عشرات الأمتار بين أشجار الزيتون، عندها ظن أفراد المجموعة بأن الشيخ قد فارق الحياة فأخذوا بالبحث السريع عنه.

ويصف الشيخ جمال أبو الهيجا، من كبار قادة حركة حماس في الضفة الغربية، وأحد قادة معركة مخيم جنين، والمحكوم في سجون الاحتلال (9 مؤبدات و20 عامًا)، هذه اللحظات قائلاً: "لن أنسى ذلك اليوم.. يوم أصيب وفقد رجليه وذراعه اليمنى على الطريق الالتفافي؛ حيث كنتأنا والأخ إبراهيم جبر(أحد قادة حماس) أول من وصله.. وجدناه ملقى تحت شجرة في وضع يصعب رؤيته، حتى صاح الأخ إبراهيم قائلاً: استشهد الشيخ أبو صهيب!، فرد عليه أبو صهيب قائلاً: "اهدأ"، وهو لا يكاد يستطيع إخراج الحروف، وقال لي عندما رأى الجميع مرتبكًا لهول حالته: "هناك مكان به لوح من الزنك.. أحضروه لتحملوني عليه"، وهو يتمتع بثقة بالله عالية وصبر لا تكاد تصدقه؛ حيث تراه مشغولاً بذكر الله عز وجل، فلم أشعر أنه بحاجة إلى مواساة بل كنت أستشعر أنه هو الذي يواسينا، ومن حبه لسلاح الجهاد والمقاومة، وخوفا من أن يحضر العدو فيأخذ منه شيئًا، كان قد بقي معه مسدس وجدته قد دفنه بالتراب، وقال لي: احفر هنا فحفرت فوجدت مسدسه".

كما تحدثت زوجته على لسانه عندما سألته عن شعوره في هذا الموقف، فقال لها: "اعتقدت عندها أنها لحظة الشهادة.. كنت سعيدًا جدًّا، فأكثرت من الاستغفار والدعاء والرجاء من الله بالقبول، كما كنت أدعو لكم بالثبات والصبر بعد استشهادي".

إصرار على الشهادة

مكث الشيخ في المستشفى ستة أشهر وسط حراسة مشددة ومراقبه من المقاومين خوفًا من عمليات الاعتقال المباغتة أو الاغتيال، وفعلاً فقد تعرض لمحاولة اغتيال وهو في المستشفى، ولكن كشف أمر المتعاونين حينها، لتنقله كتائب القسام بعدها إلى مكان أكثر أمانًا.

خليفة العياش

بقي الشيخ نصر، كما يحب إخوانه تسميته، العقل المدبر للمقاومة الفلسطينية ولكتائب القسام، ووصفه الاحتلال حينها بخليفة المهندس القسامي يحيى عياش، والقائد محمود أبو هنود.

وفي معركة مخيم جنين بشهر نيسان (أبريل) 2002، نقله المقاومون إلى مكان آمن ليوجههم ويخطط لهم في المعركة ويهندس عبواتهم الناسفة إلى أن قصفت طائرات الاحتلال المكان الذي يتواجد فيه، وهنا كانت معجزة إلهية أخرى التي أنقذته من الموت الحتمي؛ حيث لم يسقط سقف المنزل عليه مباشرة، وإنما سقط بشكل مثلث، وعندما تفقد الناس مكان القصف في اليوم التالي وجدوه ولم يظهر سوى رأسه وقد أغمي عليه وبتر الجزء المتبقي من ساقه حتى نالها.

نجا الشيخ نصر جرار في معركة مخيم جنين، وانتقل مع مجموعة من كتائب القسام إلى مكان آخر في مدينة طوباس، ليكمل مشواره الجهادي في التدريب والإعداد.

اللقاء الأخير

تصف زوجته لقاءها الأخير به، قائلة: "قبل يومين من استشهاده جاء مجموعة من الشباب ونقلونا إلى شقة في مكان آمن، وحضرت إلى المكان سيارة، وأخرج شاب منها كيسًا من "الخيش"، وأوصله إلى الشقة، وإذا الذي بداخله نصر مبتسمًا.. لقد جاء ليودعنا.. أحسسنا بنظرات الوداع تحدق بنا، لقد كان مشهدًا لا يمكن وصفه".

وبعد يومين من وداعه أهله هبّت نسائم الجنة، واقتربت اللحظات التي طالما تمناها نصر، ففي يوم الأربعاء (14-8-2002) طوقت قوات كبيرة من جيش الاحتلال بالدبابات والمدرعات المنزل الذي يتحصن فيه نصر مع مجوعة من كتائب القسام، وعندها لم تطل المفاوضات طويلاً بينه وبين مجموعته التي كان تصر على حمايته، إلا أنه بصلابة القائد وإقدامه وتضحيته وعشقه للشهادة.. أصرّ على تغطية انسحاب إخوانه من المكان.. حاولوا معه مرارًا وتكرارًا، لكنه أبى إلا الشهادة، فطلب منهم أن يضعوه على كنبة تشرف على مدخل المنزل.. فاحتضن سلاحه، ورفض نداءات الاستسلام الموجهة من جنود الاحتلال الذين استخدموا نضال أبو محسن (18 عامًا) درعا بشريًّا للوصول إلى نصر حيًّا، قبل أن يقتلوه برصاص حقدهم.

وبدأ نصر بمقارعة أعدائه فبادرهم بإطلاق النار لتغطية انسحاب إخوانه المجاهدين، عندها نجحت خطته بخداع جنود الاحتلال عندما اعتقدوا أن من بداخل المنزل قرر المواجه، فبدأوا بإطلاق النار والقذائف تجاه المنزل، في حين استطاع مرافقو نصر الانسحاب بسلام، وهكذا حمى القائد مرافقيه في مشهد يندر حدوثه في التاريخ.

وفي هذه الأثناء استدعت القوات الصهيونية المهاجمة طائرة لقصف المنزل، وفعلاً ما هي إلا لحظات حتى دمرت الطائرة جزءًا كبيرًا من المنزل، قبل أن يتعرض للهدم الكامل بالجرافات الصهيونية، لترتقي بذلك روح الشيخ نصر جرار إلى العلا شهيدًا -بإذن الله- تحت الأنقاض، وقد انفصل رأسه عن جسده الطاهر.

وفي مدينة جنين وفور سماع خبر استشهاده؛ خرج الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني مودعين قائدًا أذاق الأعداء طعم الهزيمة، قائدًا حرص على الشهادة كما حرص أعداؤه على الحياة، وبذلك سطَّر جرار قصة "جعفر الطيار" مرة ثانية؛ فهو لم يترك الراية حتى نال الشهادة.

نصر منتصرًا

انتصر نصر؛ لأنهم آثروا هدم البيت على المواجهة، ولأنه نال الشهادة برأس شامخ منفصل عن جسدٍ أخذه الردم، أما يده فبقيت تحتضن البندقية، وكأن حرارة الرصاص، وشدة قبضته عليها تريد الإطلاق لولا تناثر أشلائه بين الركام.

نيسان ـ المركز الفلسطيني للاعلام ـ نشر في 2015-08-14 الساعة 19:15

الكلمات الأكثر بحثاً