اتصل بنا
 

نيتشة ... (ذلك النبي المسجون في خياله)

نيسان ـ نشر في 2015-12-03 الساعة 13:10

x
نيسان ـ

إذا لم تكن نبوءة نيتشة تدعو للإيمان بالخير والطيبة والتسامح فإلى ماذا كانت تدعو؟

نيتشة آمن بالإنسان كما هو في حقيقته، الإنسان ذلك الكائن الأناني، الذي ينتمي لذاته أكثر من أي شيء آخر، وينتمي لحاجاته في التفوق و السيطرة، نعم هذا هو الانسان.

نيتشة أراد أن يقول الى متى يهرب الانسان من حقيقته ويرفض ان يكون ذاته؟ لنرى الإنسان علينا أن ننطلق من حقيقته من بنيته الخام نحو أجمل آفاقها.

تأثر نيتشة واستلهم أفكاره من نظريات داروين حول تطور الانسان من كائنات أبسط، وعبر الانتخاب الطبيعي، وصراع البقاء؛ صراع البقاء الذي يتحيّز للأصلح، اي الكائن الذي يستطيع ان يتأقلم.

في الحقيقة كان داروين - الذي لم يتوقع ان تلهم نظريته نظريات في علم الاجتماع- شخصا مفرطا في الرقة والتعاطف و الاستقامة.

إعتقدَ أن تعاليم المسيحية والبوذية وموجات اليهود الذين جاءوا الى أوروبا هربا من الاضطهاد حاملين معهم روح الانكسار والهزيمة هم من أسسوا لهذا الفكر المائع الرخو المليء بالشعور بالذنب، والذي يُحمل الانسان اعباء الفضيلة والمثالية، وهي بعيدة كل البعد عن حقيقة الانسان الذي أصبح يجاهد كثيرا ليكون ويصبح غيره.

نعم لقد راقب اللغة المستخدمة في ألمانيا، فلفت انتباهه أن هناك لغة لطبقة الأسياد وأخرى للعامة، عندما ينطقون من هم في طبقة الأسياد كلمة مثل جيد أو يصفون قيمة بأنها جيدة يعنون بها ما هو ممتليء بالعزة والقوة والعنفوان، بينما تستخدم الطبقة العامية ذات الكلمة لتدل بها على ما هو متسامح و متفاني و مضحٍ، أما كلمة سيئ فهي تعني حين يستخدمها العوام المغرور المتغطرس الأناني، بينما تستخدمها طبقة الأسياد لتقصد بها ما هو شعبي وعديم الذوق.

اعتقد نيتشة أن الطبقة العامة المتأثرة بالتعاليم المسيحية والبوذية أفسدت طبقة الأسياد اذ أصبحوا يخجلون من قوتهم وقدرتهم في التعبير عن حقيقتهم، علما أنه لا يوجد قيمة شريرة وأخرى طيبة بالمعنى الكلاسيكي حسب اعتقاد نيتشة، فالشر لو لم يكن ينطوي على خير ما كان استمر، ولو لم يكن ضروريا لما استمر، حتى ما هو خيّر بالمعنى الصرف يحتاج الى الشر ليحميه، نعم لنسمي الاشياء بأسمائها، هذا ما ارتآه نيتشة.

هل بامكاننا أن نصل الى طريقنا اذا كنا بأوروبا مثلا و نحن نحمل معنا خارطة للهند ؟ هذا ما يحدث عندما نُنظّر لنظرية حول الانسان لا تفهم الانسان، وتريده أن يكون ملاكا، كما فعلت المسيحية والبوذية برأي نيتشة، علينا ان ننطلق من حقيقة الانسان الى أجمل آفاقه ووفقا لطبيعته الحقيقية و ليست المتخيلة.

كما اعتقد نيتشة أن الفلسفة اليونانية في مراحلها الأخيرة والتي تصدّرها سقراط وأرسطو، كانت تعبر عن مرحلة شيخوختها، لهذا مجّدت العقل والعقلانية على حساب أي قيمة أخرى و تخلت عن عز بداياتها، عندما كانت تعبد اله الخمر باكوس ذلك المرح الماجن المعتز بغرائزه، و الإله ابولو اله التأمل و السكون، ان مزيج هذين الالهين هم مجد اليونان وانعكسا على اليونانيين بمزيجهما الفريد من الصخب و التأمل، الحرب والسكون، العقل والجسد بامكاناتهما.

هذا هو الانسان الذي نادى به نيتشة، ذالك المرح القوي، كما سكن نيتشة هاجس القوة فأخذ ينشد ويغني و يدعو لعودة ذالك الانسان الذي أفسدته تعاليم المسيحية، الانسان القوي المتفوق، الذي يحتفل بقوة عقله وجسده و عمله و شعوره لا الإنسان العقلاني الحكيم فقط، أو ذلك الهزيل الممتلئ بالشعور بالعار والذنب والفضيلة الكاذبة .

ليكن الانسان على حقيقته بأجمل احتمالاتها، معتمدا على خامته الحقيقية بدلا من قمعها وكبتها، ان الشيء الوحيد الذي على الانسان أن يهذبه و يخجل منه هو ما يجعله يصبح أضعف، عليه أن يقبل عقله و طبعه و شعوره طالما أنه يجعله أقوى، وليحلق أكثر مطلقا طاقاته لآفاق أعلى .

ان الانسان ممتلئ بطاقات البناء التي عليه ان يعبر عنها بالفكر والشعور والعمل، كما هو ممتلئ بطاقات الهدم الأصيلة فيه حسب رأي نيتشة، واذا لم يعبر عن طاقات الهدم هذه يسحبها نحو الداخل و يدمر ذاته، لهذا دعا نيتشة الدولة الى استثمار طاقة الهدم هذه في حروب خارجية تساعدها على التوسع و فرد سيطرتها على أعداء الخارج.

هذا ما ارتآه نيتشة، ليفجر الانسان طاقاته الى أقصى مداها و ليعيش الصراع اذ أن الانسان لا تتفجر طاقاته الا بالصراع الذي يليق به، و بالحرب التي تعبر عن أقصى طاقاته الفكرية و الجسدية و الشعورية، و ليفرح الانسان لأن الأقوياء هم الذين يملأون الحياة بضجيج الفرح والعمل والتفكير، وليترك الانسان تلك الأكاذيب التي تدعو للتضحية من أجل الغير، والخجل و التواضع، ليترك هذا الضعف الهزيل المُجَسد بقيم التسامح، تلك التعاليم التي لا تحاكي حقيقة الانسان ومجده و التي تملؤه بالشعور بالذنب والعار، لأنه لن يستطيع أن يكونها، قد يستطيع قلة قليلة أن يكونوها، أولئك الاستثنائيون بنبلهم وسيشقى البقية ولن يكونوها، بل على العكس سيصبحون ضعفاء يملؤهم مكر خفي، و خبث خفي، لأنهم لم يأخذوا حقهم، فالإنسان عندما لا يأخذ حقه يصبح ضعيفا فعلا، أو خبيثا يدعّي الضعف، إلى حين تأتيه فرصة لينقض على فريسته.

بدل هذا يجب أن يعترف الانسان بحقيقته ويكون ما يستطيع حقا ان يكونه، وهو ذلك الذي يفتخر بطاقاته و الذي يخوض الصراع بوضوح ليصبح أقوى.

أما الحب فإنه يليق بالضعفاء الهزيلين، وحسب رأي نيتشة على الإنسان أن يفكر بما يجعله اقوى، فلا يتزوج من اجل الحب، بل يختار من يحسّن نسله ، من يكمل ضعفه، ومن فيه صفات أقوى بامكانها أن تورث.

هذا استعراض لارث نيتشة الفكري، الذي تأثرت به أوروبا، وعاشت تجلياته الى أبعد مداها، وألهمت المهووسين من أمثال هتلر و موسوليني، أقول لقد كنت ملهما يا نيتشة !! فها هو الأوروبي عاش فكرتك إلى آخرها، الى أن دمرت أوروبا ذاتها أكثر من مرة لتتعلم قيم الديمقراطية بعدها، تلك الديمقراطية التي قلت عنها مرض يليق بأفكار المسيحية و البوذية الهزيلة، ها هي أوروبا تعلمت منك الكثير، الى أن أدركت أن الحروب سترتد الى دمار يعم.

وبقية الدول الأوروبية التي لها تاريخ استعماري هي التي لم تتعلم الدرس الى آخره، بعد مراجعة عميقة للذات، اختارت نهجا ديمقراطيا فيه قيم عالية تتجلى في تعابير تقدير الحق و الخير و الجمال لداخل مجتمعاتها، وتبقي قيم الحرب و الهدم لخارج مجتمعاتها، أما أوروبا الشمالية والتي عاشت تجليات الديمقراطية، وحافظت على قيم متجانسة من الخير لمجتمعاتها وتمتد الى خارج مجتمعاتها، فيعيش فيها الكثيرون شعور الخواء، والفراغ، لأن الانسان فيه طاقة هدم أصيلة تتجلى بالصراع.

لهذا بدأ الفلاسفة المعاصرون ينادون باستخدام هذه الطاقة الهدامة في الانسان لمحاربة الفقر و المرض والجهل، أي استخدام هذه الطاقة لما يفيد الانسان بدلا من الحرب.

وهنا سيعارضني من يؤيد فكرة نيتشة الاجتماعية بالقول أن العالم عبّر عن أقصى طاقاته في البناء التي نادى بها نيتشة فاستطعنا ان نسيطر على الطبيعة و نعمر الأراضي و نبني المستشفيات ونجد أدوية للأمراض، وهذا أدى الى ان نصل الى عدد سكان يزيد عن 7 مليار، والكرة الأرضية لا تحتمل هذا العدد، إن الدراسات تشير الى أن الكرة الأرضية لا تحتمل أن نكون أكثر من 5 مليار، لهذا على طاقة الهدم المتجلية في الحروب أن تستمر لأنها توازن طاقة البناء التي عبرت عن اقصى مداها مع طاقة الهدم وتجعلها تعبر عن أقصى مداها أيضا.

وهنا يقول العقلاء أن العالم يستطيع أن يحل مشكلاته باتفاقيات جديدة للحد من النسل و بتوزيع عادل للثروات و بعدالة أعلى بطريقة العيش .

نعم نيتشة ..نحن لسنا ملائكة ...وشديدو الأنانية حتى أن قيمة التعاطف الأصيلة فينا كما قلت لشدة أنانيتنا،لا نستطيع أن نشعر بها الا نحو من يشبهنا و يكون امتدادا لذاتنا.

نعم يا نيتشة، القيم النبيلة لا يستطيع أن يعيشها الكثيرون و تصبح خطابا يقنع به القوي الضعيف ليصبح تقيا متسامحا وطيبا، أو يشقى لينعم القوي بفساده، هذا نحن يا نيتشة.

لكن هذه ليست كل حكايتنا، فأوروبا التي سبقتنا في التدمير الذاتي و تجريب كل الفلسفات استطاعت أن تتعلم أن الانسان يستطيع أن يعبر عن طاقات البناء شريطة ان يترك مسافة بينه و بين الآخر، ويستطيع أن يحول طاقة الهدم الى هدم المرض و الفقر ، سنصل يوما يا نيتشة الى فكرة أننا شركاء على هذه الأرض، وعلينا مسؤولية مشتركة للحفاظ عليها وإلا سنتدمر ونفنى معا.

وأنت يا نيتشة، وأنت تنظر للانسان الأعلى الأقوى، ذالك الذي يفجر كل طاقاته، ويعيش قوته، ويجد ذاته في الصراع و في الحرب، أنت الذي لم تستطع أن تشترك في الحرب لأن بنيتك الجسدية كانت هزيلة, وأنت صاحب العينين الحادتين والعميقتين واللتين كان يهرب منهما الناس، أنت نفسك لم تحتمل منظر الدماء عندما عملت في التمريض مساندا الحرب بدلا من خوضها المعركة، وكان يغمى عليك عندما ترى الدم.

كنت تقول أن رقتك الداخلية سببها المسيحية الهزيلة التي أفسدتك، بينما كنت تعتقد أن الانسان القوي فيك قادم، ذلك الذي لا يخيفه منظر الدم ولا يهرب منه.

لا يا نيتشة ( الذي غادرتنا منذ أكثر من قرن و شبحك ما زال يخيم علينا ) منظر الدم بشع، لقد غطى كرتنا الأرضية و أدمى قلوبنا، والحرب بشعة، وقد تكون هي الضرورة المرة لاسترداد الحقوق و الكرامة و لكنها ليست مبررة لسلب الحقوق.

أما الحياة دون حب، فليتك تعرف كم هي جافة ، كم هي موحشة، وكم ننتظر يا نيتشة أن يأتي ذلك الانسان القوي الذي يعيش أقصى طاقاته، طاقة الفكر والجسد و الروح، كما ننتظر ذالك الذي لا يخاف من رقته و ضعفه، فالرقة أيضا قوة، والهروب من الدم هو أيضا جوهر الانسان الذي خُرب.

ننتظر أن يأتي ذلك الانسان الذي يؤمن بأن عليه أن يكون ويعبر عن أجمل طاقاته هو والآخر، ليس على حساب الآخر، فالأرض كريمة و تحتملنا جميعا.

نيسان ـ نشر في 2015-12-03 الساعة 13:10

الكلمات الأكثر بحثاً