اتصل بنا
 

ضادُ الهويّة حين تتكلّم اللغة عن نفسها

نيسان ـ الدستور ـ نشر في 2025-12-19 الساعة 09:34

ضاد الهوية حين تتكلم اللغة عن
نيسان ـ طارق ربابعة
في الثامن عشر من كانون الأوّل، لا تحتفل العربيّة بيومٍ عابر في رزنامة اللغات، بل تقف شاهدةً على تاريخٍ طويل من الحضور، والتأثير، وصناعة المعنى. إنّه اليوم العالمي للغة العربيّة؛ يومٌ تُستعاد فيه الذاكرة الثقافيّة للأمّة، وتُستنهض فيه الأسئلة حول مكانة لغةٍ كانت ـ وما تزال ـ وعاءَ حضارةٍ وضميرَ أمّة.
العربيّة ليست مجرّد أداة تواصل، بل منظومة فكرٍ وجمال، تشكّلت فيها الرؤية إلى الإنسان والعالم. بها نزل القرآن، فارتقت من لغة قبائل إلى لغة رسالة، ومن لسان محليّ إلى خطاب كونيّ. وفي ظلالها ازدهرت علوم التفسير والفقه، والفلسفة والطب، والرياضيات والفلك، فكانت العربيّة جسرًا عبرت عليه المعارف إلى الإنسانيّة جمعاء.
وإذا كانت اللغات تُقاس اليوم بقابليّتها للتداول العالمي، فإن العربيّة تتفرّد بقدرتها على الجمع بين الثبات والتجدّد؛ ثباتٍ في بنيتها العميقة، وتجدّدٍ في استعمالاتها وسياقاتها. فهي لغة الشعر والبلاغة، كما هي لغة الإعلام والمعرفة الرقميّة، لغة التراث كما هي لغة المستقبل إن أُحسن التعامل معها.
غير أنّ الاحتفاء بالعربيّة لا يكتمل بالشعارات وحدها، بل يتطلّب وعيًا عمليًّا بمسؤوليّة الحفاظ عليها. فالتحدّيات التي تواجهها ـ من تراجع في الاستعمال السليم، وهيمنة اللغات الأجنبيّة في بعض المجالات، وضعف الثقة بها لدى بعض أبنائها ـ لا تُعالج إلا بسياسات لغويّة واعية، وتعليمٍ رصين، وإعلامٍ يحترم اللغة ويؤمن بدورها.
إنّ اليوم العالمي للغة العربيّة ليس مناسبةً للحنين فقط، بل دعوةٌ مفتوحة لإعادة الاعتبار للغتنا في المدرسة والجامعة، وفي الخطاب الثقافي والإعلامي، وفي تفاصيل حياتنا اليوميّة. فاللغة التي حفظت تاريخنا، قادرة ـ إذا حفظناها ـ أن تكون شريكًا فاعلًا في صناعة مستقبلنا.
في هذا اليوم، نحتفي بالعربيّة لا لأنّها لغة الماضي فحسب، بل لأنّها لغة الحياة ولغة ما لم يُقَل بعد.

نيسان ـ الدستور ـ نشر في 2025-12-19 الساعة 09:34

الكلمات الأكثر بحثاً